في مطلع هذا الأسبوع، وعلى مدار ثلاثة أيام متتالية، عرضت مبادرة (زاوية) بالاشتراك مع المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة أول ثلاثة أفلام روائية طويلة للمخرج التونسي الحائز على السعفة الذهبية عبداللطيف كشيش، وهى: Poetical Refugee و Games of Love and Chance و The Secret of The Grain، وكما كان الغرض من عرض أفلام كشيش في هذه المبادرة هو "إعادة الاكتشاف"، نقوم هنا بعملية إعادة اكتشاف للخصال الفنية الأصيلة التي تنضح بها أفلام كشيش، والتي تم إيجازها في عدة نقاط رئيسية مصاغة في هيئة وصايا مستوحاة من هذه الخصال
الوصية الأولى: أحب من تكتب عنهم دون قيود
الشخصية بالنسبة لكشيش هى كل شيء، ومن بعدها تأتي بقية الأشياء، لذلك كلما كان كشيش يفكر في مشروع سينمائي جديد، يبدأ بتصور الشخصية، ثم يطوع كل تفاصيل عالمها المحيط لأجلها، وغالبية الشخصيات التي يقدمها كشيش تأتي في اﻷصل من الطبقات الكادحة في المجتمع الفرنسي أو الوافدة إليه، لأنه يرى الكثير من القواسم التي تجمع بينه وبين أبناء هذه الطبقات حسبما ذكر في كثير من حواراته الصحافية.
بالنظر إلى كافة التطلعات التي تشغل بال شخصيات كشيش، سواء كان "جليل" في Poetical Refugee أو "عبد الكريم" (كريمو) في Games of Love and Chance، أو "سليمان" في The Secret of The Grain، أو حتى "أديل" في Blue is The Warmest Color، فهي كلها تطلعات بالغة البساطة من المنظور الإنساني المجرد حتى أنه يمكن أن تصاغ تحت عناوين عريضة (التحقق، الحب، الأمان المادي، البحث عن الهوية)، وكشيش يحترم هذه التطلعات، ويقدرها للغاية، بل أنه حتى يقدر كافة الجهود الدؤوبة التي تبذلها شخصياته في سبيل محاولة تحقيق هذه التطلعات.
كل شخصية من شخصيات كشيش الرئيسية تخوض غمار تجارب شخصية جديدة بالنسبة لها، حيث تصير احتمالات النجاح والفشل متساوية، لكن مجرد خوض هذه التجربة خطوة ارتقائية نحو وضع أفضل، ليس فقط من المنظور الطبقى، ولكن من المنظور الانساني والاجتماعي كذلك، مثل محاولة جليل للاستقرار في فرنسا بعد هجرته إليها، أو محاولة عبد الكريم لفت أنظار "ليديا" زميلته في الدراسة، أو محاولة سليمان للنهوض بمشروع مطعمه، أو حتى محاولة أديل للحصول على الاستقرار العاطفي.
الوصية الثانية: دع شخصيتك تتنفس بملء رئتيها
في حوار صحافي أجراه بعد فوزه مباشرة بالسعفة الذهبية من مهرجان كان العام الماضي، يذكر كشيش أنه حينما يفكر في الاتجاه الذي ستتخذه قصة فيلمه، يكتشف أحيانًا أن القصة والشخصيات قد تقوداه إلى اتجاه مغاير تمامًا لما كان يفكر به في البداية، وأن ذلك لا يحدث فقط خلال مرحلة الكتابة، وإنما كذلك في مرحلة التصوير نفسها، مما يجعله يعول كثيرًا على التجريب والارتجال، حتى أنه في فيلمه الأخير Blue is The Warmest Color قد قام بتصوير ما يقرب من 800 ساعة لينتج في نهاية الأمر فيلم تبلغ مدته ثلاث ساعات.
وبالنظر إلى البنية الزمنية للمشاهد نفسها داخل الفيلم، نجد كشيش يتعامل معها بأريحية كبيرة دون أن يبالي بمدى طول المشهد، ودون أن يقيد نفسه بالنص أو بأي تصورات مبدئية طالمًا أن المشهد يملك قدرة فائقة على معايشة الشخصية بكل تفاصيلها الدقيقة، مثل المشهد الذي تجتمع فيه العائلة لتناول وجبة الكسكسي بالسمك في The Secret of The Grain، أو مشاهد بروفات المسرحية بين كريمو وليديا في Games of Love and Chance، أو مشهد مقابلة آديل وإيما في المطعم في Blue is The Warmest Color.
الوصية الثالثة: كن متواجدًا طوال الوقت
في كافة أفلامه، تبدو كافة العناصر المحيطة بشخصياته هى مجرد عناصر مكملة وليست رئيسية، فالأولوية بالنسبة له هي الشخصيات التي تملأ غالبية فضاءات الصورة في أفلامه، لذا تصير اللقطات المقربة هي سيدة الموقف في معظم الوقت، والتي يستخدمها كشيش بشكل مكثف، محققًا قدر أكبر من الاقتراب من الشخصيات على المستويين النفسي والبصري على حد سواء.
الأمر يصل بكشيش حتى إلى تجاهل شبه تام عنصر المكان، أو على أقل تقدير إعطاءه درجة أقل في تراتيبية الأولويات، ففي فيلمه الطويل الأول Poetical Refugee، والذي بالرغم من كونه فيلمًا من أفلام المهجر، إلا أنه يشذ تمامًا عن القاعدة التي تسير عليها هذه النوعية من الأفلام، حتى يصير الفيلم في النهاية ليس استكشاف للمدينة مع بطل الفيلم، وإنما استكشاف مطلق وتام لرحلة البطل ذاته.
الملاحظ كذلك أن كشيش لا يستخدم اللقطات العامة إلا في حالات نادرة حينما تصير الشخصية في مشهد بعينه جزء من هوية أكبر من الهوية الذاتية الفردية التي تتميز بها، مثل مشهد كرنفال المثليين في Blue is The Warmest Color أو مشهد عرض المسرحية في Games of Love and Chance.
الوصية الرابعة: ابحث عن قواسم مشتركة أكثر عمقًا
على خلاف كافة المخرجين، لا يقع عبداللطيف كشيش في فخ الانغماس في مناقشة النزعات القومية لأبطاله أو حتى تناول ثنائية الشرق/الغرب التقليدية، وهو فخ يقع فيه العديد من المخرجين العرب الذين يصنعون أفلامهم في أوروبا وأمريكا، فهذه مسائل ربما لا تشغل كشيش كثيرًا على المستوى الفكري بقدر انشغاله بالبحث عن قواسم أكثر عمومية وأكثر بساطة، والأهم بالطبع، أكثر انسانية.
وفي ذات الوقت، لا يسلب كشيش الهوية القومية بشكل كامل عن شخصياته، لكنه لا يجعلها دائمة الحضور طوال الوقت، وإنما يجعلها تظهر على نحو يبدو عفويًا وعارضً في السياق الدرامي، كأن تتفوه الشخصية في وسط الحديث الفرنسي بكلمة عربية على سبيل المثال، محافظًا بذلك على توازن جيد في الطرح لا يجيده غالبية المخرجين الذين يعشقون وضع مئات الخطوط تحت الهوية القومية.