ربّما لم يوجد فيلم آخر قط يجعلك مُتأكدًا كلّ هذا التأكد أثناء مشاهدته أن روحك وقلبك سيُعتصران حتى أخر قطرة مع تتابعات النهاية إلا سينما باراديسو Cinema Paradiso. طوال مدة عرض الفيلم هناك غصة غير مُريحة عالقة في حنجرتك لا تريد مغادرتها، إحساس مُبكِّر بالشجن الذي لابد أتيًا ليجتاح كلّ خلاياك... تشعر بهذا على الرغم من كلّ ما يغلف الفيلم من نكات صاخبة وروح مرحة مُشبَّعة بحب الحياة... وهذا ما يجعل من الفيلم حالة فريدة قلّما تتوافر في عالم السينما، ولهذا هو يستحق كل دقيقة من وقتك إذا لم تكن قد شاهدته بعد.
الفيلم يحمل بين طيّاته فكرة خلّابة، وكلّ لحظة فيه هي متعة خالصة تكتشفها تباعًا أثناء المشاهدة... فهو لا يُقدم لك كلّ ما في جعبته من أصالة وجمال سريعًا، بل يخبئ لك أفضل لحظاته حتى مشهد النهاية، فقط لتكتشف أن الفيلم قطعة أستاذية لا تُضاهى وضع فيها تورناتوري كلّ ما يحمله من حب للسينما وللحياة، واحتفى من خلالها بكلّ شيء تقريبًا، وبأفضل طريقة ممكنة.
احتفاء بالطفولة
كلّ أحلام الطفولة العذبة بحيويتها وشغفها وإصرارها على التواجد ورغبتها في التعبير عن نفسها تجد التجسيد الأمثل لها هنا. نتابع قصة الصبي سالفاتوري أو (توتو) الذي يعيش في قرية صقلية صغيرة بها دار عرض وحيدة هي كلّ متعة أهل القرية. لا يتوقف الصبي عن ملاحقة ألفريدو فني العرض بالسينما حتى يرغمه بأساليبه الخاصة على أن يقبله مساعدًا له. توتو قام بدوره طفل إيطالي رائع هو كاسكيو الذي استطاع تحويل عفويته الكاملة وروحه الجذلة إلى حضورٍ طاغٍ على الشاشة ربما لا يضاهيه أي من أدوار الأطفال الأخرى سوى شيرلي تمبل في أفلامها الراقصة، أو درو باريمور في إي تي.
احتفاء بالصداقة
هذه واحدة من أفضل قصص الصداقة التي رويت في السينما على طول تاريخها. تبدأ العلاقة بين توتو وألفريدو بنوع من النديّة، وربما ببعض الضيق من طرف ألفريدو، لكنها سرعان ما تتطور عبر الأحداث لشيء آخر مختلف تمامًا، شيء أسمى بكثير من مجرد صداقة عادية. تبدأ شرارة العلاقة بمساعدات مختلفة من كلا الطرفين لبعضهما البعض، وتدريجيًا وببطءٍ شديد تتحول إلى علاقة أبوية حميمة بين رجل لم ينجب أطفالًا وابن فقد الأب، ثم مع مرور الأيام تعلق بها الألفة، ويمتزج بها نوع من العرفان بالجميل متبادل من الطرفين، كلّ هذا على خلفية مشتركة من هوس السينما وحب الأفلام... إلى أن تتحول في النهاية إلى كيان هائل من العشرة والود والحب من الصعب توصيفه بالكلمات، كيان ناكر للذات بشكل خرافي، ولا يحمل في جعبته ذرة من الأنانية.
احتفاء بالشجاعة
يشب حريق في السينما وألفريدو محتجز في غرفة العرض يحاول السيطرة على النيران إلى أن يفقد وعيه... يهرول الناس جميعهم خارجين من دار العرض التي تلتهمها النيران غير عابئين ولو للحظة بمصير مُشغِّل آلة الأحلام الذي يموت وحيدًا في غرفته كما عاش فيها وحيدًا طيلة عمره... فقط يركض الطفل سالفتوري بكلّ قوته في الاتجاه المعاكس، وفي رأسه تصرخ فكرة واحدة لا غير: الاطمئنان على صديقه وربما محاولة إنقاذه إن أمكن... هنا الشجاعة التي لا تخشى شيئًا والنابعة من حب فطري عميق كما لم تُقدّم من قبل، خصوصًا وهي تأتي من صبي لم يتجاوز العاشرة بعد.
احتفاء بالحنين
ربما يكون هذا هو أكثر شعور سيكمل معك بعد مشاهدتك للفيلم... كلّ هذا الحنين الذي ستجد روحك مُشبّعة به لحد الإتخام، والذي سيتحول إلى دموع في مُقلتيك ربما تستمر لفترة بعد تترات النهاية (هذا بالطبع يعتمد على إذا كنت من النوع الباكي أم لا). الحنين جزء أساسي في نسيج الفيلم، وهو الجزء الذي فضّل تورناتوري أن يختم به قصته. قبل أن يموت، يقوم ألفريدو بإعداد هدية أخيرة لصديقه سالفتوري الذي كبر الآن وأصبح مخرجًا شهيرًا، لكنه لا يسلمها إياه بنفسه، بل يوصي له بها بعد موته. يعود سالفتوري للعزاء ليفاجأ بأروع شيء على الإطلاق: جميع قصاصات السيلولويد التي تحتوي على لقطات القبلات والعري التي كان قس القرية يحذفها من الأفلام قديمًا جمعها له ألفريدو في مونتاج واحد بارع ليزلزل به كل الحنين بداخله وداخلنا، وليؤكد له أنه لم ينسه قط، وأنه حين أمره بعدم العودة للقرية مرة أخرى لم يكن هذا نتيجة لقسوة قلب أو أيّ شيء آخر مماثل، وإنما لأنه أحبه حقًا وتمنى له السعادة الحقيقية. ألفريدو هو أقرب شيء للأب الذي لم يحظ به سالفتوري، ولهذا لم يكن أنانيًا معه قط.
احتفاء بدور العرض الشعبية
تلك التي يدخِّن فيها الجمهور بأريحيّة، ويضحكون بصوتٍ عالٍ، ويبصقون على الجالسين أمامهم، ويمارس فيها الشباب العادة السرية أحيانًا... دور العرض الشعبية التي تصهر الجمهور في أتونٍ واحد وتجعل من تجربة المشاهدة شيئًا ذو مذاق حريف تمامًا ربما لا يستسيغة الجمهور المُترف الذي تعود على دور عرض المولات ذات الصالات المتعدِّدة، لكن الذي جرب سينما الترسو يومًا لا يمكن أن ينسى هذا المذاق الذي لا يتكرر في أي تجربة مشاهدة أخرى. الفيلم رثاء مُفجِع لدور العرض الشعبية التي غفل عنها الزمن، وربما لصناعة السينما الإيطالية ككلّ التي كانت تمر بأزمة في أواخر السبعينات ومنتصف الثمانينات بسبب ظهور التلفزيون وعزوف المشاهدين عن ارتياد قاعات العرض، وانتشار موجه الأفلام الكوميدية الجنسية Commedia sexy all'italiana التي عرفت بـ"أفلام الرعاع" واكتسبت شعبية كبيرة.
احتفاء بالسينما الأمريكية
نادرًا ما نرى فيلمًا أوروبيًا يحتفي بكلّ هذا الحب والإخلاص بالسينما الأمريكية وبهوليوود التي تربى على أفلامها الناس من كلّ الشعوب واللهجات، ربما باستثناء ملاحم سيرجيو ليوني الاسباجيتية وهذا الفيلم. شغف تورناتوري بالسينما الأمريكية ستقابله هنا في كلّ ركن، في اقتباسات العجوز ألفريدو من أفلامه المفضلة التي يحفظها عن ظهر قلب، في أفيشات الأفلام التي يستعرضها تورناتوري في تغزلٍ واضح كلما سنحت له الفرصة، في صور نجوم هوليوود المتناثرة في غرفة آلة العرض. هذا فيلم إيطالي يقدم تحية كبرى للسينما الأمريكية التي يحب الكثيرين إظهار احتقارهم لها، وهذا نقطة إضافية تضاف لصالحه.
احتفاء بالقُبلات
سواء كنت تستمتع بالمشاهد الرومانسية الحميمة في الأفلام أو تكرهها، لن تستطيع أبدًا أن تُنكر أن القُبلة هي أكثر فعل يمكن أن يعبر عن الحب. ولأن الفيلم يحتفي بالحب بكلّ أشكاله وأنواعه، لذا فهو بالتبعية يحتفي بالقُبلات بكلّ طريقة ممكنة، ربما أكثر من أيّ فيلم آخر، وخصوصًا مع مشهد النهاية الساحر الذي سيرجَّك من الداخل كما لم تشعر من قبل.
وفوق كلّ هذا احتفاء عظيم بفن السينما وحب الأفلام،
باختصار، ومثلما تؤكد العبارة الدعائية (Tagline) الخاصة به، الفيلم «احتفالية كبرى بالشباب، والصداقة، وسحر السينما الذي لا ينضب ولا ينتهي أبدًا»، ولولا بعض العيوب المُزعجة في شريط الصوت (قام الممثل الفرنسي فيليب نويريه بأداء دور ألفريدو ودُبلج صوته بعد ذلك عن طريق فيتوريو دي بريما بمكساجٍ سيئ) لأخذ الفيلم العلامة الكاملة دون تفكير، فهذا واحد من أروع الأفلام قاطبة التي تحدثت عن السينما، وأحد أفضل ما قدمه فن السينما على طول تاريخه.
التقييم بالنجوم: 9/10