"بالتأكيد الثقوب السوداء يمكن أن تقتلنا، وبمجموعة متنوِّعة من الطرق المُروِّعة والمثيرة للاهتمام. لكن رغم كل شيء، قد نكون مدينون بوجودنا ذاته لهذه التشوهات في نسيج الطبيعة"
فيليب بلات، عالم فلك.
ستظل أفلام الخيال العلمي تخلب الألباب، ما دام يواصل العلم مُفاجأة العقل البشري بين الحين والآخر بنظريَّات تتناقض مع بديهيَّاته ومنطقه، وتُبرِز الطبيعة الخلّابة غير الطبيعيَّة للعلم. أنتظر لحظة طرح فيلم كريستوفر نولان " Interstellar" في دور العرض بشغف متزايد منذ عامين تقريبًا، ظللت مشحونًا فيهما حتَّى احترقت دوائري العصبيَّة. كنت أُمنّي نفسي برؤية عمل استثنائي، ربما أوديسا فضائيَّة جديدة. لكن الحقيقة العارية صادمة دائمًا. الأفلام العظيمة تتطلب رؤى عظيمة بدورها، وهو الشيء الذي بات من الواضح تمامًا أنه ليس موجودًا في جعبة نولان من الأساس.
يأبَى نولان أن يُمرِّر أيّ فيلم من تحت يديه مرور الكرام، دون أن يتلاعب بالحبكة لأبعد مدى. يحب أن يحشو أفلامه بكثيرٍ من المنعطفات، كثير من المبالغات، كثير من الصراعات الجانبية، بداعي ودون داعي، ومن دون الالتفات إلى إن كان الفيلم يحتمل كل هذا أم لا. الرجل يعتقد أن هذه هي بصمته التي سيُخلّد بها للأبد، لذا يُسرِف في الأمر بشدّة. للأسف هي ليست بصمة بقدر ما هي وصمة من وجهة نظري. أن يكون لك تكنيك مُميّز هذا شيء، وأن تُكرِّر استراتيچيتك الإخراجية على طول الخط لهو شيء آخر تمامًا.
في النصف الأول من الأحداث نحن أمام عمل فائق بكل المقاييس. التناول مختلف تمامًا عن كل ما عاهدناه في أفلام نولان السابقة. الفيلم هادئ، متماسك، ذو طرح علمي رصين، وشحنة عاطفيَّة جبارة ستذرف معها دموعك رغمًا عنك. السيناريو احترافي ومبتكر جدًّا ويحمل تجسيد مُفجِع لتداعيات النسبية على البشر. كل شيء مُصاغ باقتدار ومترابط بشكل أخّاذ. مُنطلق الفيلم واعد للغاية ويحمل بين طيّاته فكرة مرعبة: انقلاب الكوكب علينا حوَّل الجنس البشري من روّاد ومستكشفين إلى مجموعة من جامعي الطعام الأذلّاء في رِدّة حضارية هائلة إلى الوراء، فقط قلة قليلة جدًا من البشر ما زالت تحمل داخلها قبسًا من الشغف والقدرة على تحدي المجهول، وكثيرًا من الأمل. هؤلاء سينطلقون في مهمّة استكشافية للفضاء العميق في محاولة أخيرة لإنقاذ الجنس البشري من الانقراض.
حسنًا، ثمَّة بعض الأمور التي قد تتململ منها في هذا النصف من الفيلم، كرحلة الفضاء التي لم تكن بالتكثيف الكافي ولا الجموح المتوقّع كما رأينا في Contact مثلًا.. لكن كل شيء حتَّى هذه اللحظة كان مغفورًا بالكامل بسبب الحكاية الأساسية التي تُحكى بكل هذه العظمة.
لكن مع النصف الثاني من الأحداث يتغير كل شيء، ويتجلّى لنا وجه نولان القبيح المُعتاد. هذا الجزء من الفيلم مصنوع خصيصًا لعُشَّاق نولان، ويحمل كل (التحابيش) التي يعشقها مُحبو الرجل. يأخذ نولان فيلمه إلى حبكات فرعية غريبة ليس لها أيّ داعي ويستهلك فيها قرابة الساعة، وبالطبع يُقدِّم أكثر من منعطف في الأحداث، أتى واحدًا منها فقط مُبرَّرا. وكعادته أيضًا، يضع الرجل نفسه في مآزق عديدة لا يتمكن من الخروج منها إلا بكم كبير من المبالغات، وكم أكبر من ثغرات الحبكة. في حقيقة الأمر، بناء الفيلم بأكمله ينهار بثغرة حبكة قاتلة أصر نولان عليها ولا أدري السبب. الأمر كان سلسًا للغاية في البداية، لكن نولان المراوغ يأبى إلا أن يتمادى إلى أقصى درجة، إلى أن (فرط منه الفيلم) كما يقول التعبير العاميّ في النهاية.
الصراع بين ماثيو ماكونهي و مات ديمون قُدِّم - وأخشى أن أقولها - بابتذال شديد. نعم أعلم جيدًا ما كان نولان يرمي إليه: ها هما ابنا البشريَّة وحيدان على كوكب ناءٍ على بُعد سنوات ضوئية كثيرة، مع ذلك يصر أحدهما على قتل الآخر ليفوز بكل شيء. إنهما قابيل وهابيل، الين واليانج. حسنًا، هذا جميل جدًا، لكن ما دخل هذا بالمنحى السردي الفيلم؟ فيلم يتناول رحلة أوديسيَّة بهذه الأهميَّة، لماذا يهبط إلى مستوى درامي أقل بكثير كالصراع النمطي بين الخير والشر الذي قُدِّم مئات - أو قل آلاف - المرات من قبل؟ الأمر جاء مُقحمًا للغاية ومرهقًا جدًا. لا يوجد جواب سوى هوس نولان العميق بإضافة منعطفات لا لزوم لها كنوع من ضرب المشاهد على قفاه، تلك التي يفسد بها معظم أفلامه.. ناهيك عن المونتاج المتوازي الذي أصر على إقحامه هو الآخر في ذروة الأحداث دون مُبرِّر وبشكل فجّ.
على المستوى البصري الفيلم باهت للغاية. لا أعرف تحديدًا عدد لقطات المؤثرات في الفيلم لكنها قليلة جدًا مقارنةً بأيّ شيء، حتى بـ جودزيلا الذي أثار خيبة أمل كثيرين بظهوره الخاطف (أنا لست منهم بالمناسبة). هنا كل شيء شحيح بصريًا تمامًا. هذا فيلم فضاء سترى فيه الفضاء بالكاد، وبزوايا مُملة لن تستعرض لك بهاءه الكامل على الإطلاق، كتلك اللقطة السخيفة للكاميرا المُعلّقة على جناح المكوك التي تكررت عشرات المرات. أيضًا ما حكاية تلك الكادرات الضيقة المُستفزّة؟ الفيلم بالكامل مكون من لقطات قريبة ومتوسطة! كل شيء دانٍ جدًا، معظم الكادرات مُغلقة، وكأن بيئة الفيلم التي تصرخ بالبراح لم تهز شعرة في رأس مُخرجه كي يتغزل فيها.
أيضًا أريد أن أتوقف قليلًا عند تفصيلة أخطاء الفيلم العلميَّة، التي كانت فادحة بالمناسبة. الفيلم مبني بالفعل على نظريات عالم الفيزياء النظرية كيب ثورن، ومحاولاته هو وزملاؤه لبناء آلة زمن نظريًا عن طريق تخليق ثقب دودي داخل مُعجل جُسيمات، ثم توسيعه والحفاظ عليه من الانهيار كي يُسمح بمرور مركبة فضائية بداخله. كل هذا رائع، بل ويتبعه الفيلم بدقّة. لكن يجب ألا نخلط بين انبهار كيب ثورن بالشكل النهائي الذي خرج به الثقب الأسود في الفيلم (وهو الأمر الذي قاده لكتابة ورقة علمية مخصوصة عنه)، وبين ارتكاز نولان على عدم دراية معظم الناس بمدى شناعة الرحلة داخل ثقب أسود أو بالقرب منه وتأثيرها المدمِّر على الجسد البشري (وليس على الزمن فقط كما ظهر في الفيلم) واستغلال هذا ليُقدِّم ما يريد.
الثقب الأسود ما أن اقتنص شيئًا لا يفلته قط، وإذا عبر جسمٌ ما أُفُق الحدث (ويسمى أيضًا أُفُق اللاعودة) يصبح أسيرًا للمفردة الشاذة إلى الأبد، بل وجزء من مادتها أيضًا. أُفُق الحدث سطح أُحادي الاتجاه، أيّ شيء يدخل منه يستحيل خروجه مرة أخرى. نولان ضرب بكل هذا عرض الحائط، وقدم تخيُّلًا يتناقض تمامًا مع قوانين الفيزياء. فقط أردت التركيز على هذه النقطة كي يتوقف التشدُّق بعبقرية نولان التي قادت إلى الورقة العلميَّة التي كُتبت اعتمادًا على ثقب Intersteallar الأسود. تلك الورقة كُتبت عن طريقة تصرف الضوء حول الثقب الأسود وانعكاس هذا على هيئته الخارجية، وهو إنجاز يذهب بالكامل لفريق المؤثرات ولكيب ثورن نفسه الذي أمدهم بالمعادلات ليصنعوا النموذج الحاسوبي بدقة عالية، أما ما قُدِّم في الفيلم عن فيزياء الثقب الأسود لهو محض هُراء. نولان وقف على أكتاف العمالقة لكنه لم يبصر أبعد، أعتقد أنه كان مشغولًا بالبحث عن الـ "Twist" القادم، وكيف سيجد له مكانًا وسط الأحداث.
لكن إحقاقًا للحق، الفيلم يحمل كثيرًا من الأشياء الإيجابية، تمثيل ممتاز من الجميع (باستثناء مات ديمون بالطبع)، ونصف أول مثير جدًا، وموسيقى تصويرية أستاذيَّة.. هذه واحدة من أقوى خبطات هانز زيمر منذ زمن طويل. كما أنه مُغلَّف بخاتمة جيدة جدًّا ستحزن على وجودها في فيلم مثل هذا. أيضًا مكساچ ومونتاچ الصوت في الفيلم شيء شديد الفخامة، وأظن أن الفيلم سيقتنص جائزتي الأوسكار هنا.
في النهاية، إن كنت من محبي أفلام الفضاء الرصينة فثمَّة احتمال كبير أن تكره الفيلم، وإن كنت من محبي أفلام الفضاء الخفيفة فبالتأكيد ستكره الفيلم، وإن كنت ممن ليس لديهم خلفية كبيرة بالنظريات العلميَّة المعقدة التي بُنيّ عليها الفيلم لن تفهم شيئًا وستكره الفيلم. حالة واحدة فقط أظن أنك ستحب الفيلم فيها بكل تأكيد، هي أن تكون من مُهوَّسي نولان المخلصين الغافرين لكل خطاياه.
--
*العنوان مستوحى من عنوان مقال آخر كتبته منذ عام ولم أجد أنسب منه ليصف شعوري تجاه الفيلم.