ضمن فاعليات أسبوع النقاد الدولي بـ مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السادس والثلاثين، تم عرض الفيلم التسجيلي " أغاني من الشمال" (2014).
الفيلم إنتاج برتغالي، وهو العمل الأول لمخرجته سون-مي يوو، التي ولدت في كوريا الجنوبية ونشأت وتلقت تعليمها في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تم عرضه للمرة الأولي هذا العام في مهرجان لوكارنو الدولي، وحصل هناك علي جائزة أفضل عمل أول.
توثق المخرجة في الفيلم - باستخدام لقطات قامت هي بتصويرها وأخرى مسجلة مسبقًا مثل أفلام دعائية قديمة أو خطابات سياسية للثلاثة زعماء (كيم إيل سونج، كيم ينج إيل وكيم يونج أون) وتسجيلات لمناسبات واحتفالات وأعياد قومية خلال عصور الثلاثة زعماء- ثلاث رحلات متعاقبة قامت بها إلي كوريا الشمالية.
كما يكتب مسافر مذكراته اليومية في إحدى زياراته لبلد جديد، تخلق سون مي يو نسختها المرئية من مذكراتها لرحلاتها إلي كوريا الشمالية، مسقط رأس والدها، الطالب اليساري الذي اختار أن يتوجه إلى الجنوب بعد الحرب الكورية، وليس إلى الشمال كما فعل الكثير من رفاقه.
منذ افتتاحية الفيلم، تركز مي يوو على فكرة رئيسية تتصدر الأفكار التي تطرحها عليك طوال مشاهدتك، وهي أن شعب كوريا الشمالية، تحت حكم ثلاث ديكتاتوريات على مدار 66 عامًا، خضع لأكبر عملية غسيل مخ جماعية ربما في تاريخ الإنسانية أجمع، فهوس الشعب، بجميع طبقاته الاجتماعية، بأيٍ من الزعماء الثلاثة، شيء متأصل داخل نفسياتهم، يؤثر في أسلوب حياتهم اليومية ونظامها منذ سن مبكرة جدًا، حيث تُحفر في العقل الباطن لدي كل طفل فكرة أن زعيم الدولة هو بمثابة أب حنون محب لكل فرد بها.
تتخذ مي يوو نهجًا منطلقًا يتمتع بحرية في استخدام الوسيط، تقترب في روحها إلى أسلوب الهواة في تصوير الرحلات، مما يضفي، بالإضافة إلي مونتاج الفيلم الذي يبرز حس الدعابة المستتر الذي تتمتع به المخرجة، نبرة ساخرة أقرب للكوميديا السوداء على جو الفيلم.
يتغني طفل يبلغ بالكاد السادسة من العمر بكلمات معناها أن الزعيم كيم يونج أون أحن عليه ويحبه أكثر من والده أثناء حفل مدرسي يحضره يونج أون شخصيًا، تقترب مي يوو بكاميرتها من وجه أحدهم وهو يستمع إلى عازف كمان في أحد الحدائق العامة وهو يعزف لحنًا حزينًا في ذكري وفاة كيم إيل سونج، لنراه وهو يحاول منع نفسه من البكاء، وتظل مي يوو تصوره في لقطة قريبة طويلة ساخرة جداً، حتي يلتفت لها ثم يخبئ وجهه خجلاً، ونسمع مي يوو خلف الكاميرا تقول "كلهم هنا كذلك".
استخدمت مي يوو الكتابة على الشاشات السوداء التي تذهب إليها بالاختفاء التدريجي بين الحين والآخر، لتوجه جمل قصيرة لتصف مشهدًا ما أو كيف توصلت إليه، أو الظروف المحيطة بتصويره، وأحيانًا لإظهار انطباعها الشخصي عما تعرضه، لتضفي المزيد من الذاتية والخصوصية على جو الفيلم.
وأثناء إحدى اللقطات الواسعة البديعة التي تصور الناس وهم يسيرون كلُ منهم وحده تمامًا وهم يقطعون ميدانًا كبيرًا ذهابًا وإيابًا أثناء عاصفة ثلجية عنيفة، نسمع صوت مي يوو وهي تقول "أليس هذا البلد أكثر بلاد العالم وحدةً وعزلة؟..... أنها بلد بلا أصدقاء" ومع ما تعرضه مي يوو لك، تصلك رسالتها واضحة، فهذا الشعب الذي تراه، فقد أي اتصال بينه وبين بقية العالم منذ أكثر من ستة عقود.
ما يجعل فيلم أغاني من الشمال يتميز عن بقية الأفلام التي تناولت كوريا الشمالية كظاهرة سياسية في سياق درامي أو تسجيلي، بل ويتصدرهم من حيث القيمة الفنية، هو أنه الفيلم صاحب الرؤية الأصدق والأكثر خصوصية واكتمالاً لهذه البقعة المظلمة من الكوكب وظواهرها الاجتماعية والثقافية.
فالمخرجة لا تتعرض لتاريخ كوريا الشمالية بزعمائها الثلاثة المليء بالاغتيالات الجماعية والقمع والجرائم ضد الإنسانية، وإنما تفضل، على النقيض من جميع الأفلام الأخرى التي يمكن أن تقارن بها، أن تغوص في تفاصيل الحياة اليومية البسيطة للشعب الكوري كمن يتأملها وحيدًا عن بعد، عن طريق توثيق يقترب أحيانًا في شاعريته من الحلم، ويظهر ما يظهره من سلبيات عن طريق تناقضات تثير فضولك وتفكيرك وتضحكك في آنِ واحد.