(تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومة قد تكشف نهاية الفيلم، ينصح بقراءته بعد المشاهدة)
اختتم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والثلاثين عروضه السينمائية بالفيلم اليوناني Little England للمخرج بانتليس فولجاريس، والذي فاز منذ بضعة أشهر بجائزة أفضل فيلم من مهرجان شانغهاي السينمائي الدولي، كما اختارته اليونان ليكون هو ممثلها في مسابقة اﻷوسكار لعام 2015 في فئة أفضل فيلم أجنبي.
تبدأ وقائع الفيلم من البحر، وتنتهى كذلك إلى البحر، حيث لا يربط فقط مصائر أبطاله به، وإنما يربط حياة بلدة أندروس بأكملها التي يعمل الكثير من رجالها في عرض البحر كـ قباطنة وبحارة وضباط على السفن، فيصير بالنسبة ﻷهل البلدة هو اﻷمل في غد أفضل، وفي الوقت ذاته يحمل ﻷهل البلدة الكثير من مشاعر الخوف والحزن من تقلبات أمواجه وأحواله.
ومن هذا المنظور، يصير البحر هو بمثابة تعبير عن القوى القدرية، وهو ما يتناسب بالتأكيد مع قصة تحمل في جعبتها كل هذا القدر من الروح الكلاسيكية، والتي تمتد عبر ما يقرب من العشرين عامًا، قد يبدو معها على المستوى الظاهري أن بلدة أندروس لا تزال على نفس حالها منذ مطلع ثلاثينات القرن العشرين، إلا أنها في القلب تتبدل فيها حيوات بشرها من حال لحال.
يأتي كذلك نشوب الحرب العالمية الثانية كحدث درامي في الفيلم ليزيد أكثر من المذاق الكلاسيكي للفيلم، ويضاعف كذلك من وطأة النزعة القدرية التي تسيطر على شخوصه، والتي تسببت في اتخاذ حيواتهم لمسارات مخالفة لما كانوا يحلمون به، خاصة مع مثلث الحب الذي يكونه اﻷختان أورسا وموشكا ( بنيلوبي تسيليكا و صوفيا كوكالي) مع القبطان سيبروس ( أندرياس كونستانتيو).
إن ما حدث بين أروسا وسبيروس يمكن وصفه بأنه يحمل روح "المأساة الشكسبيرية الخالصة"، فحالة الحب التي عاشتها أروسا كانت تساوي كل الحياة بالنسبة لها، وكانت تعوضها عن غياب اﻷب في رحلاته الطويلة في البحار الواسعة، وعن جفاء اﻷم في المعاملة، وعن الحياة الرتيبة للبلدة، لكن كل العوامل قد وقفت كحجر عثرة في طريق حبهم: جشع اﻷم، والحالة المادية المتواضعة لفتى في مقتبل حياته، وإشفاق العم من التسبب في حزن ابن أخيه مما أدي به إلى عدم إبلاغه بخبر رفض اﻷم لزواج الفتى من أروسا.
وبدلًا من المضي في حياة جديدة صارت مجبورة عليها، تجد أروسا أن ذكرى الحب لا زالت حية، خاصة بعد زواج سيبروس من شقيقتها بعد أن تحسنت أحواله المادية وصار قبطانًا، وكانت تعاني لسنوات بين محاولة التجاوز لهذا الحب، وبين محاولة استحضار وجود الحبيب سيبروس معها، خاصة في ظل السفريات الطويلة لزوجها الذي يعمل قبطانًا هو اﻵخر.
وفي إحدى المشاهد الفارقة التي تدلل على ما تقاسيه أورسا، تصاب الشقيقة موشكا بالحمي، ونراها عارية تمامًا بينما تحاول أورسا أن تخفف من درجة حرارة جسمها بالكمادات، لكنها في هذه اللحظات كانت أقرب ما يكون لعالم سبيروس حبيبها، حيث كانت تحاول تلمس دروب حبيبها على جسد شقيقتها بعد أن ظلت ليالي طوال تستمع إلى أصوات تأوهاتهما من الدور العلوي للمنزل، وبعد أن ظلت تتخيله في خاطرها قبل أن يحدث كل ما كان.
لكن المشهد اﻷكثر قيمة دراميًا وتمثيلًا هو المشهد الذي يحمل معه خبر موت سبيروس في عرض البحر مع السفينة التي اشتراها للتو، وفي هذا المشهد يرمي بانتليس فولجاريس بالكرة في ملعب بنيلوبي تسيليكا، ويركز لمدة تقترب من الثلاث دقائق على وجهها فقط، نراقب فيهم تحول متدرج وعنيف في ملامح وجهها، وكأن كل الكبت والحزن وتجرع اﻷلم الذي دام 15 عامًا قد خرج بأكمله في هذه اللحظة المتفجرة وهو ما استحق تصفيق عارم من كافة الحضور في المسرح الكبير.
قد تختلف الآراء كثيرًا حول (انجلترا الصغيرة)، منهم من لن تروقه روحه الكلاسيكية، ومنهم من سيتماس معه عالم الفيلم ﻷبعد حد، لكنه في كل الأحوال كان خاتمة طيبة لدورة هذا العام.