"إلى روح زينب المهدي.. علها تضحك".
الصفعة
في 1993 شهدت الشاشة الكبيرة عرض الفيلم اﻷول للمخرج محمد كامل القليوبي، والذي حمل اسم " ثلاثة على الطريق" ليعلن بقوة عن مخرج مختلف كل الاختلاف عمن تسيدوا الساحة في هذا الوقت، حيث غرقت السينما المصرية في الجريمة والجاسوسية والابتذال.
جاء القليوبي بطابعه الإنساني للغاية ليكون بمثابة صفعة على وجه أباطرة الطلقات النارية والمعارك الشرسة بين البطل وأفراد العصابة، وفي 1995 قدم القليوبي تجربته الثانية بعنوان " البحر بيضحك ليه" لتأتي أكثر نضوجًا وإنسانية، حيث "حسين" الموظف المنضبط المكبوت على المستوى الإنساني والذي يراه الجميع مجنونًا لخروجه عن النمط التقليدي، فهو المخلص النزيه المسالم القنوع، في عصر تعد فيه تلك الصفات من علامات الجنون لا علامات الإنسانية.
جاء القليوبي ليناقش فكرة التحول والتطور من أحد أفراد الجنس البشري لكائن يستحق لقب إنسان في قالب فانتازي ساخر، وتعد افتتاحية الفيلم من أكثر الافتتاحيات السينمائية المصرية هدوءً وتشويقًا، حيث "حسين" جالسًا على مكتبه في العمل ويُطلب منه الذهاب إلى مكتب المدير لنكتشف جميعا أن "حسين" هو الوحيد في عمله الذي يرتدي بنطاله، بينما الجميع عراة من الأسفل والأغرب أنهم يستهجنونه كأنه الخارج عن المألوف، لنكتشف أنه كان مجرد حلم ليصحو منه "حسين" على زوجته تعنفه بقسوة كونه نسى ونام وهو يرتدي البنطلون، افتتاحية رغم مباشرتها إلا أنها أيضًا تحمل من الإبداع والتشويق الكثير، ليطوف بنا القليوبي عبر مشاهد متوالية لنرى مدى العدائية والروتين الذي يعاني منه "حسين" على يد زوجته وشقيقها وشقيقته وزملاء العمل وحتى الأصدقاء.
وفي ظل كل هذا الكم من العدائية والروتين الذي يعاني منه "حسين"، تظهر منه لمحات تشير لرغبته في الهرب من الجحيم الذي يعيش فيه، مثل نظرته لـ"سيد بص" ( نجاح الموجي) أو إطراءه على محاولات أحد أصدقائه المستمرة في جذب النساء إليه.
أراد القليوبي أن يدخلك في الحالة التي يعاني منها "حسين"، فجعل إيقاع الفيلم في البداية بطيء نسبيًا لتشعر بكمية الملل والروتين الذي يعاني منه البطل، ولكن الأمر خرج من يديه فجاءت بعض المشاهد رتيبة ومملة للغاية.
نقطة تحول "صفعات متتالية"
وعلى الرغم من إنسانية "حسين" الجمة والتي منعته من الاستمتاع بإحدى العاهرات التي قدمها له أحد أصدقائه كهدية لعيد ميلاده الذي نساه الجميع، حتى "حسين" نفسه، وانخراطه في متابعة الأحداث العنيفة التي كانت تدور في البوسنة والهرسك على شاشة التلفاز، إلا أنه يقرر أن يثور ليخرج من الدائرة الخانقة التي يدور فيها، فيقرر "حسين" الثورة بعدما يقفد الأمل في حلم الإنجاب، وبعدما يستخدم شقيق زوجته سلطاته كرئيس مباحث لتقوم الشرطة بالقبض عليه في أحد الملاهي الليلية، بعدما نجحت الشلة في جذب أنظار رواد المكان وفتيات الريكلام بلعبهم للطاولة، يقضى "حسين" ليلته في التخشيبة ليخرج وفي عينيه نظرة جديدة على هذا الوجه المنهزم المستسلم، يخرج ليجد الجميع يتنكر له، فأصدقائه يطالبونه بالابتعاد عنهم لاعتقادهم أن له نشاط سياسي خطير، وزوجته تعنفه لأنه ارتاد كباريه وتركها، ينام "حسين" ليحلم أنه يجاري الآخرين في حياتهم، ولكنهم يتهمونه بالجنون أيضًا، يستيقظ على صوت زوجته تعنفه مرة أخرى لأنه تأخر على موعد عمله ليبدأ "حسين" ثورته الصامتة على العالم، فلا مبررات يعطيها ولا مطالب، فقط صار حسين يوزع صفعاته على الجميع زوجته وأخته وزملائه في العمل، حتى مديره المباشر الذى أدي دوره الفنان حمدي يوسف، والذي برع في لقطة تلقيه للصفعة بنظرة ندم وخوف كطفل صغير تعاقبه أمه، وهو يعلم أنه مخطئ، حتى أصدقاءه ينالون نصيبهم من الصفعات، ليخرج "حسين" بعد ذلك إلى عالم جديد يقرر أن يعيش إنسانيته المكبوته دون قيود.
"سيد بُص"
يدخل "حسين" عالمه الجديد عن طريق أول "خمارة" يصادفها بعدما يفك أزرار قميصه أمام البحر، وككل طفل يهجر عالمه ليدخل عالم جديد يحتاج إلى دليل ومرشد في رحلته الأولى، ليجد "حسين" "سيد بص" في انتظاره، بينما يعاني أحد رواد البار من الوحدة الشديدة تدفعه للاعتقاد بأن الجميع أصبحوا صديق عمره الذي لم يعد موجود في مشهد مؤلم برع فيه الفنان منير مكرم، يتعرف "حسين" على "سيد بُص"، ليكون دليله ومرشده في العالم الليلي، ومنقذه أيضًا، "سيد بص" الإنسان طيب القلب على الرغم من كونه "فهلوي" و"بورمجي" وجد ببصلته الخاصة هذا الكم من الإنسانية الذي يفيض من "حسين" ليدخله العالم الجديد من أوسع أبوابه.
لا نملك حينما نشاهد فيلم "البحر بيضحك ليه" إلا الوقوف طويلًا أمام فنان بقامة نجاح الموجي الذي استطاع أن يستوعب شخصية "سيد بص" غير التقليدية وغير النمطية، الشخصية ذات الأبعاد العديدة، ولكن نجاح الموجي بمهارة فريدة وموهبة لا محدودة استطاع الإمساك بتلابيب شخصية "سيد بص"، وظهر هذا جليًا في أول ظهور حقيقي للشخصية في البار في المقابلة الأولى مع "حسين".
ينتقل بنا نجاح الموجي في كل مشهد من لمحة إلى أخرى في شخصية "سيد بص"، التي ربما هي واحدة من أفضل الشخصيات التي كتبها القليوبي.
العاهرات
منذ فجر الفن تعد شخصية العاهرة أو فتاة الليل أو بائعة الهوى واحدة من أكثر الشخصيات الدرامية ثراءً، فلم يكن من المقبول أن يمر القليوبي في رحلته للبحث عن الإنسانية المفقودة دون التوقف أمام شخصية العاهرة، بدايةً من القوادة "رفقة" ( جليلة محمود) وفتاتها اللتان حاولتا النصب على "حسين" وسرقته مرورًا بالعاهرات الأربع اللاتي صادفهن "حسين" في رحلته.
وعلى الرغم من وجود 4 عاهرات في الفيلم وهي مساحة واسعة يمكن من خلالها الخوض أكثر في فلسفة الإنسانية المفقودة، إلا أن القليوبي رفض أن يستغل تلك المساحة ليفرد مساحة أخرى لقصة الحب الطفولية التي نشبت بين "حسين"، الذي يقرر أن يمتهن مهنة الحاوي و"نعيمة ولعة" ( نهلة سلامة).
العاهرات الأربع تعرف عليهن "حسين" في رحلته أما عن طريق أزمة تمر بها، كأن يضربها قوادها في البار، أو أن يلقيها أحد الزبائن من سيارته على الطريق، في إشارة للعنف الذي تتعرض له فتيات الليل رغم طيبتهن الشديدة، وأخرى جاءته بعدما سمعت عنه من صديقة، ليستغل القليوبي العاهرات الأربع ليظهر تغيرًا جديدًا على شخصية حسين، في لقطة من أفضل لقطات الفيلم، حينما نراهم جميعًا نائمين شبه عراة في إشارة لممارسة الجنس معهن جميعًا، تحمل معها دلالة على تفهم "حسين" لفكرة الرغبة وممارستها بإنسيابية، دون تعقيدات أو مبررات واهية، وأن كان مبرر "حسين" في امتناعه عن ممارسة الجنس مع أول عاهرة قابلها في رحلته أنه لا يستطيع أن يلمس امرأة لا يحبها، فهو استطاع أن يحب أربع بجوار "نعيمة" في دلالة وأن جاءت جيدة من الناحية البصرية ولكنها قد تثير تأفف أخلاقي لدي المشاهد يؤثر على معناها.
عن الحب
تطرق القليوبي في رحلتة الإنسانية إلى الحب بأكثر من شكل، فهناك الحب الشهواني من طرف واحد بين "سعيد" ( محمد لطفي) و"نعيمة ولعة"، وهناك الحب الإنساني الخالص بين "زيزي صديقة الطلبة" ( حنان شوقي) و"حسين" ( محمود عبدالعزيز)، والحب السلطوي التملكي لدى زوجة "حسين"، وهناك الحب الخالص الصافي الأشبه بقصص الحب الطفولية بين "نعيمة ولعة" و"حسين".
ليبرهن القليوبي مرة أخرى على قيمة الإنسانية حتى وأن كانت هناك معركة دائرة بين رجلين على قلب امرأة، فالمعركة بين "سعيد" الذي يعشق "نعيمة ولعة" هذا الحب الشهواني، والذي يوجد به بواقي نزعة تملك واضحة، يصطدم بالإنسان القادم والدخيل على عالمهم "حسين"، الذي تنجذب "نعيمة" لإنسانيته في البداية، ثم تغرق في حبه، حتى بعدما يتزوج من العاهرات الأربع، وكأنما علمت "نعيمة" ببوصلتها الإنسانية أن ما فعله "حسين" لا يعد خيانة، ويمكن تسميته ضرائب الإنسانية، كما تتفهم "نعيمة" لهفة "زيزي" على "حسين" بعد عودته للحياة مرة أخرى.
الميلاد
يظن الجميع أنه توفي بينما كل ما في الأمر أنه نام بعمق، ربما لأول مرة، نام كطفل يكتمل نموه بالنوم، ليخرج بعدها إنسان، ولأن "عمر" ضابط المباحث شقيق زوجته السابقة يرغب في أن يدفن جثمانه سريعًا، ليدفن معه إنسانيته التي رأها فضائح، حينما يعود في صباح اليوم التالي ليأخذ الجثمان لا يجده فيقرر إقامة جنازة وهمية، حتى يتخلص من فضائح "حسين" ومن عار الإنسانية، إلا أن "حسين" حينما يرى الجنازة، وبها عدد من معارفه يتصرف بتلقائيته الشديدة، ليهرب الجميع هلعًا، ويقف هو في النهاية أمام "عمر" وبينها النعش الخالي، لتعلن نظرة "عمر" ميلاد "حسين" الجديد، إنسان يحب ويتزوج ويمارس إنسانيته ببساطة وتلقائية في رحلة بحث هادئة عن مغزى الإنسانية وماهية الإنسان.
يولد "حسين" من جديد ليجد عالمه الجديد، زوجته الجديدة "نعيمة ولعة" وأصدقاءه من العالم السفلي، ليقوم "سيد بُص" بالإعلان عن "حسين" الجديد الذي وُلد بنفس الاسم، حينما يرفع عقيرته مناديًا "بُص بُص بُص" على طائرة ورقية لطفل تحلق عاليًا بعيدًا عن باقي الطائرات، في إسقاط جيد على ما وصل له حسين فى نهاية مرحلة البحث عن الإنسانية المفقودة، وبداية الحياة الجديدة.
لقطات متفرقة
على الرغم من المعالجة السيئة من ناحية الصورة والكادر السينمائي للفيلم، ولكنه ينجح في لمس وتر خفي في نفوسنا، وتر إنساني للغاية، يجبرك أن تشاهد الفيلم مرات عديدة، ربما تكمن ميزة سينما القليوبي في صدق شخصيتها وإنسانيتها التلقائية الصادقة والمتدفقة دون حساب.
على مدار مدة الفيلم يقدم القليوبي عدد من اللقطات المتفرقة كلقطة المنتقبات الخارجات من البحر في إشارة لمحاولة البعض بالاستمتاع بحياتهم في ظل التشدد المحيط، ربما اختار القليوبي النقاب كدلالة على التشدد، ولكنه لم يرد هنا الإشارة المباشرة للتشدد الديني فقط، بل يريد تجاوزه للتشدد والتضييق من كافة العوامل والمؤثرات مثل العادات والتقاليد والأديان والممنوع والمسموح، بل أن القليوبي يشيد بهذه المحاولة على الرغم من بؤسها الشديد عن طريق نظرة عين "حسين" التي تجمع الحسرة عليهن وعلى حاله والإعجاب بفكرة المحاولة حتى وأن كانت بائسة ويائسة.
وفي مشهد الكباريه يشيد القليوبي أيضًا بضرورة المحاولة، ويؤكد عليها صراحةً عن طريق صديق "حسين"، الذي لا يمل من محاولة الوصول إلى النساء رغم افتقاره لكافة المقومات، التي قد تساعده على ذلك، كالوسامة أو المال الوفير، ففكرة المحاولة وحدها كفيلة بالتشجيع، فخروج "حسين" من محبسه الروتيني الممل كان محض محاولة أراد لها القليوبي النجاح، ليناقش من خلالها فلسفته حول فكرة الإنسانية.
ولكن على الرغم من إنسانية الفيلم وحواره الذي حمل العديد من الجمل المضيئة والشخصيات التي تنبض بالحياة في كل مشاهدها والأداء المتقن للممثلين، إلا أن الفيلم تعرض لظلم شديد من محمد كامل القليوبي الذي لم يستطع خلق صورة سينمائية توازي وتساوي هذا الزخم الإنساني الذي حمله الفيلم، كما وقع الفيلم أيضًا في فخ المباشرة في مشاهد عديدة أبرزها مشهد الحلم الذي يراه الجزء الأخير في الفيلم، وأيضًا مشهد تعريفه لنفسه كونه يعمل "إنسان" فجاءت المشاهدة المباشرة كتفصيل بعد إجمال، انتقصت من الحالة العامة للفيلم.
ولكن على الرغم من كل هذه السقطات التي وقع فيها القليوبي في فيلمه، إلا أنه نجح مع ذلك أن يقدم فيلمًا محملًا بمشاعر إنسانية صادقة، وربما الصدق في الطرح والفكرة يشفع كثيرًا للقليوبي في مشواره السينمائي.