قصة بسيطة جدًا، تكاد أن تكون موضوعًا لفيلم ميلودرامي مبتذل، أو مسلسل تليفزيوني رخيص، على طريقة ذئاب الجبل، حيث يعيش كبير القرية الثري في قصره بصحبة زوجته وأخته ومعارفهم وحراسهم، مستغرقين فى مشاكلهم العاطفية والنفسية، غافلين عن معاناة الفلاحين الفقراء الذين يعيشون على فتات عطف أصحاب القصر!
على مدار ثلاث ساعات ونصف الساعة تقريبًا يتكون فيلم نعاس الشتاء "Winter Sleep" من مشاهد حوارية طويلة بين "أيدن" وهو ممثل مسرحي نصف مشهور وصاحب فندق سياحي يملك الكثير من بيوت القرية المحيطة، وأخته التي أتت للإقامة معه بعد خلاف مع زوجها يقترب من حافة الطلاق، وزوجته الشابة التي تصغره كثيرًا، والتي ارتبطت به بعد قصة حب.
وعلى هامش الأحداث تمر قصة فرعية تنمو مع الوقت لتسيطر على مجرى الأحداث، حيث تتعرض سيارة "أيدن" لاعتداء من طفل صغير هو ابن واحد من فقراء القرية الذين لا يستطيعون سداد إيجار البيت الذي يسكنونه، مما يدفع محامي "أيدن" ومساعده للاستيلاء على بعض ممتلكات بيتهم، ومنها التلفاز الصغير الذي يمتلكونه، كما يعتدون بالضرب على والد الطفل، وهو ما يترك أثرًا بالغ السوء على الابن والأب والأسرة كلها.
تتحرك الدراما فى عدد من الخطوط والاتجاهات، العلاقة بين "أيدن" وأخته، العلاقة بين أخته وزوجها، العلاقة بين أخته وزوجة "أيدن"، العلاقة بين "أيدن" وزوجته، وبين الزوجة وبعض أصدقائها ومنهم مدرس شاب فى مثل عمرها متحمس للأعمال الخيرية، العلاقة بين أسرة "أيدن" وأسرة الفلاح الفقير، وخاصةً أخيه الأكبر العاقل المتدين الذى يسعى للتهدئة.
هذه العلاقات تتعقد تدريجيًا وتتكشف فى الربع الأخير من الفيلم بعض الأسرار الصادمة، وإن كانت فى النهاية عادية، ومع تكشف المزيد من الحقائق عن طبائع الشخصيات وماضيها، تتلاشى في أذهاننا تلك الحدود المصطنعة بين الخير والشر ويصعب علينا التمييز بين دوافع البشر، أو تقييم سلوكياتهم وقراراتهم، وينتابنا الشعور بأن أرواح الشخصيات وأرواحنا ستظل دائمًا أسيرة لهذا المزيج العجيب من الرغبة في التحرر بالأعمال النبيلة والشعور بالذنب الناتج عن أفعالنا السيئة.
تسير الأحداث بهدوء وبدون افتعال مواقف درامية صاخبة، بل يتجنب مخرج الفيلم نوري بلجي جيلان تقريبًا تصوير أي عنف أو مواجهات حامية، ويفضل دائمًا أن يترك لمشاهده تأمل الطبائع والظروف القهرية التي تدفع الشخصيات إلى المواجهة، متجنبًا التنميط المعتاد للطيبين والأشرار، ومفضلًا عليه الاقتراب من كل الشخصيات بعيون محبة متفهمة.. حيث تنمو الدراما وتتبلور النفوس أمامنا كما لو كنا نجلس أمام حديقة تنمو زهورها ونباتاتها الوحشية أمام أعيننا.
الجديد الذى يقدمه جيلان هو هذه القدرة الفذة على الإمساك بروح الفيلم وإيقاعه وشخصياته وإدارة ممثليه وخلق لوحات فنية ناطقة كما لو كنت تشاهد بعض لوحات كبار الرسامين والروائيين الواقعيين فى القرن التاسع عشر، وقد أضيفت إليها القدرة على النطق والحركة!
فيلم "نعاس الشتاء" كما وصفه بعض المتحمسين له ومنهم أنا طبعًا يضيف مفاهيم جديدة لفن السينما، وبعيدًا عن هذه المبالغة يمكن القول أنه واحد من الكلاسيكيات العظيمة التى تنجح فى نقل روح الأدب والروايات العظيمة إلى فن الصور المتحركة.
ينتمي "نعاس الشتاء" أكثر ليس إلى سينما بيرجمان بل إلى التيار الواقعي في السينما التركية، ذلك التيار الذي نما وترعرع على يدي الكاتب والروائي والممثل والمخرج الراحل يلماظ جوني، هذه الأفلام التي نحتت الواقعية كأسلوب تكسوه شاعرية واضحة في أسلوب التعامل مع الصورة ومع الشخصيات.
بالختام: هو بكل تأكيد فيلم درامي عبقري بالتصوير والإخراج الذي لم يترك أي شاردة ولا واردة إلا اهتم بتفاصيلها وحوارات طويلة مميزة غير مملة بتاتًا مع تمثيل مميز من قبل هالوك بيلجينير و ميليسا زوزان.
تقيمي للعمل : 9/10.