(تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومة قد تكشف نهاية الفيلم)
يقدم لنا المخرج الروسي أندري زياجينتساف في فيلمه " Leviathan" عملًا فنيًا بالغ الأهمية، لمضمونه المبين لطبيعة العلاقة بين المواطن الروسي وحكومته. الفيلم مستوحى من قصة حقيقية للأمريكي مارفن هيماير، ولكن مع الكثير من التغييرات في القصة، كتب كلا من أندري زياجينتساف و أوليج نيجين نص الفيلم، والذي يعتبر بوضوح جلي إعادة معاصرة لسفر أيوب من العهد القديم.
بمناظر خلابة وموسيقى مأساوية يفتتح الفيلم أولى مشاهده والذي يصور لنا تراطم أمواج باليابسة، وبقايا قوارب متكسرة. قصة الفيلم تدور في بلدة صغيرة مطلة على بحر بارنتس في أقصى شمال روسيا، يقطنها القليل من السكان من بينهم المواطن البسيط "كوليا" ( أليكسي سيريبرياكوف) وزوجته الثانية "ليليا" ( إلينا لايدوفا) وابنه من زوجته الأولى. أطماع الحكومة التي تريد أن تستولي على قطعة الأرض التي يعيش عليها كوليا وعائلته منذ أجيال لا تتوقف، فالعمدة الفاسد (رومان ماديانوف) يريد أن يستملك الأرض غصبًا بالقانون المدني وبمباركة الكنيسة التي لا تلقي بالًا لرعاياها. وهنا يلجأ كوليا للقضاء مستعينًا بصديقه المحامي ديمتري سيليزنيوف رجل القانون ( فلادمير فيدافيشينكوف) ولكن محاولتهما تفشل، فلا يستطيع القضاء حماية المواطن من بطش رجال الحكومة. أثناء إعلان الحكم النهائي الخاص بالقضية تتلو القاضية الحكم الطويل بسرعة كبيرة وبصوت أحادي النغمة يدفعك للملل في مشهد يشعرك بعدم اكتراث هيئة القضاء لك أنت المواطن الضعيف أمام أصحاب السلطة البيروقراطيين.
تتطور الأحداث تصاعديًا شيئًا فشيئًا، يأتي العمدة لمنزل "كوليا" مهددًا إياه وهو في حالة سكر شديدة بالكاد يستطيع أن يقف على قدميه، وكأن العالم هنا يحكمه السكارى العنيفون. وبعدما تفشل محاولة المحامي في حماية حق "كوليا" عن طريق القانون مع القضاء، رتب موعدًا ليلتقي مع العمدة ويبتزه ببعض المستندات بحوزته، فيشيط غضبًا في لقطة يقف فيها العمدة مباشرةً تحت صورة الرئيس الروسي الحالي فلادمير بوتن، وأي لقطة معبرة عن هرم الفساد الحكومي في هذا البلد أكثر من هذه، فالفساد فيها تفشى من عاصمتها حتى بلدة صغيرة في أقصى شمال البلاد. فيقوم العمدة بتهديد المحامي بالموت، ليكف عن مضايقته والوقوف في طريقه، وما الذي بحيلة "ديمتري" أن يفعل سوى الرحيل منهزمًا من حيث أتى.
تموت "ليليا"، ويُتهم "كوليا" بقتلها بعد تهديده لها حينما علم بخيانتها له مع "ديمتري"، فيسجن "كوليا" بعد ثبوت إدانته، ويكمل الابن العيش مع أصدقاء العائلة، تتفك الأسرة الواحدة. "كوليا" يسأل في لحظة ألم وهو ينظر بكل حزن إلى السماء "لماذا يا إلهي؟" ولكن الكنيسة لا تقدم له جوابًا ولا حتى أمل، فكبير رجال الدين الساكت عن أفعال العمدة لا يخالط غير الأثرياء ولا يتحدث سوى معهم. في أثناء إلقاء موعظة الأحد في الكنيسة يلتف العمدة إلى ابنه ويقول له "الله يرى كل شيء" فيا ترى هل هذه رسالة يوجهها زياجينتساف لحكومته وكنيسته؟ غطرسة الحكومة وتغاضي الكنيسة عن أفعالها المشينة أدت في النهاية لهدم المنزل حرفيًا، الذي كان يومًا ما يأوي رجلًا وزجته وابنه.
الفيلم غاية في الروعة والإبداع نصه متشابك الأحداث بشخصيات متعددة ومختلفة منها القوي ومنها الضعيف، منها المنتصر ومنها المنهزم. زياجينتساف مخرج ممتاز للغاية، وما يميزه هو قدرته على التعبير عن التوتر الدرامي بصريًا وسمعيًا، بتصوير ميكايل كريشمان الساحر وبموسيقى فيليب جلاس القوية يخلق زياجينتساف صورًا واقعية عن الحياة ومعاناة الصالحين فيها. الهيكل الذي ظهر في الفيلم هو نوذج لهيكل حوت أزرق، وهو يرمز لعالم يظهر فيه القوي يأكل الضعيف في صراع يهدم المجتمع برمته، فلا يتبقى فيه سوى الهياكل.