(تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومة قد تكشف نهاية الفيلم)
" Birdman" هو فيلم درامي هزلي قدمه لنا المخرج المميز اليخاندرو جونزاليز في نهاية عام 2014، لكي ينافس على جائزة الأوسكار في معظم الفئات، بل وراهن على نجاحه وفوزه بجائزة أفضل فيلم حتى من قبل عرضه بالمهرجانات والمسابقات السينمائية حول العالم، وراهن على تقديم مايكل كيتون بعد سنوات من الاختفاء والتشتت بين أدوار رخيصة وقصيرة لا تتلائم مع موهبته التي يعرفها الجميع ولا تضاهي قدر النجاح الذي قدمه سابقًا في جزئين من سلسلة الأبطال الخارقين والكوميكس "باتمان" حتى ظن البعض أنه اعتزل أو لم يعد له وجود.
يقدم لنا الفيلم قصة ممثل اشتهر سابقًا بتقديمه شخصية البطل الخارق "الرجل الطائر" في التسعينات ونال شهرةً ونجاحًا واسعان، جعلا له شعبية كبيرة حول العالم ساعدته على التحليق في سماء النجومية والمجد، حتى قرر يومًا أن يتوقف عن تقديم هذه السلسلة الهزلية، ولكنه اكتشف عدم قدرته على الخروج من إطار "الرجل الطائر"، وحتى جمهوره الذي أحبه يومًا ما لم يعد يهتم برؤيته في أدوار أخرى، بل أن البعض حتى وإن تذكره يتذكره فقط كـ"الرجل الطائر"، وهو ما يدفعه إلى البحث عن ذاته من جديد من خلال تقديم مسرحية درامية بحثًا عن فرصة جديدة مع الجمهور بل وفرصة للخروج من عباءة "الرجل الطائر".
ولعل المثير للإعجاب بالفيلم أنه تناول قصة حياة "مايكل كيتون" بصورة غير مباشرة، فذلك الممثل الذي اشتهر يومًا بتقديمه لشخصية البطل الخارق الأشهر على الإطلاق "باتمان" وتوقف عنها في عام 1992، فشل في إثبات نفسه في أدوار أخرى ولم يجد الفرصة من أجل إثبات قدراته التمثيلية المدفونة، حتى المحاولات التي سعى إليها بإنتاج وإخراج بعض الأفلام من إنتاجه لم تلق النجاح المتوقع، واعتبر البعض أن "الرجل الوطواط" كان سبببًا في هلاكه كما كان سببًا في نجاحه، ومن هنا أعتقد جاء ترشيح المخرج اليخاندرو جونزاليز لـ"مايكل كيتون" حيث وجد فيه ضالته المنشودة وكان بالنسبه له الأمثل لتقديم هذه الشخصية المركبة والغامضة، التي تتطلب مجهودًا كبيرًا وممثلًا واعيًا بكافة الجوانب التمثيلية والنفسية لهذه الشخصية.
ولعل اللافت للانتباه أيضًا أن الفيلم قدم ما بين السطور قصة ساخرة تنتقد أفلام الخيال العلمي، والأبطال الخارقين، والتي تصدرت المشهد السينمائي في السنوات الأخيرة، وأصبحت أفلام قوى الشر والآلات الأكثر إنتاجًا فغابت القيمة الدرامية والنفسية.
قصة الفيلم كانت بالفعل فريدة من نوعها ومعقدة تحتاج إلى مشاهد واعي بالسينما والفن، مؤمنًا بفكرة تقمص الشخصيات إلى حد الجنون حتى يستطيع الاستمتاع بكافة تفاصيل الفيلم، فمنذ اللحظة الأولى من العمل يقدم لنا المخرج بعدًا فلسفيًا وأسطورة إغريقية قديمة من خلال ذلك الشيء المحترق الساقط من السماء إلى القاع وهو "إيكاروس"، ذلك الفتى الذي حُكم عليه بالحبس في متاهة صممها والده بسبب غضب الملك "مينوس" عليهم، فوجدوا أن الحل الوحيد للخروج من هذه المتاهة هو الطيران عاليًا فصمم الأب أجنحة من الشمع وقرر الطيران مع ابنه "إيكاروس" قبل أن يحذره من الارتفاع عاليًا حتى لا تذوب أجنحته بفعل الشمس وبالفعل خرجا معًا من المتاهة وحلقا إلى أعلى الدرجات حتى نسى "إيكاروس" نفسه وحلق عاليًا وعاليًا رافضًا أي قيود أو حدود لطموحاته فكان من الطموح ما قتل، ذابت أجنحته واحترق وهوى إلى البحر حيث هلاكه، ومن هذه الأسطورة قدم لنا المخرج "الينخاندرو جونزاليز" نبذة بسيطة عما يحدث وسيحدث بالفيلم، فأستوحى فيلمه من قصة صعود وهبوط "إيكاروس" فقدم قصة غريبة ومميزة تحتاج إلى مشاهد صبور وواعي لا يكتفي فقط بما يقدم له مباشرةً بل يبحث ما بين السطور ويربط الأفكار والجمل الخفية ببعضها.
الأطار الذي وجد "ريجن" فيه نفسه يعد نوعًا من الاضطرابات النفسية ألا وهي هوس تقمص الشخصيات فنرى الأعراض من خلال شخصية "الرجل الطائر" التي تطارد البطل طوال أحداث الفيلم، فتطالبه بالتوقف عن عرض هذه المسرحية السخيفة التي لا تتلائم مع موهبته وأن يعود مرة أخرى ليقدم للناس ما يريدونه، فالجمهور الحديث لا يحب الدراما والأبعاد النفسية العميقة بل يفضل دائمًا أفلام الخيال العلمي والحركة والأبطال الخارقين وهو بمثابة صراع يدور داخل عقل "ريجن" ما بين الرغبة في التحليق بموهبته عاليًا والخوف من العودة مرة أخرى والغرق فى ظل "الرجل الطائر"، فنجد "ريجن" طوال الوقت يتعارك مع نفسه ويحطم كل شيء حوله رغبةً في طرد "الرجل الطائر" من رأسه وبصورة أخرى ليصبح رجلًا طائرًا بموهبته لا بشخصية كارتونية لا تضيف لتاريخه إلا شهرة تجارية سخيفة.
من ضمن المشاهد التي تألق فيها "كيتون" المشهد العبثي الذي ظهر فيه نصف عاريًا راكضًا فى شوارع المدينة باتجاه المسرح، حيث رسم لنا كاتب ومخرج العمل لوحة فنية للوسط الفني حول العالم، ولهؤلاء النقاد الذين لا يرحمون ويستغلون أقل الأخطاء لتدمير المشاهير مستخدمين أقلامهم ونقدهم، ولهؤلاء المهاوويس الذين يحبون الفنان لدرجة خانقة، وهنا يدخل "كيتون" إلى المسرح وسط المتابعين ويصرخ "ماذا يجب على أن أفعل لكي تحبونني؟" في إشارة إلى أن الفنان دائمًا ما يحاول جاهدًا إسعاد المشاهدين بكافة الطرق، ولكنه يتعرض للتشويه والنقد في بعض الآحيان.
وبعيدًا عن تألق مايكل كيتون وتقديمه مشاهد واقعية اندمج بها كثيرًا حتى أنه وفي أحد المشاهد أشار إلى تاريخ أخر جزء من سلسلة "الرجل الطائر" والذي كان في 1992، وهو نفس تاريخ أخر جزء قدمه من سلسلة "باتمان"، إلا أن مشهد النهاية ربما ترك انطباعًا سلبيًا لدى الكثيرين، وجعل العمل بالنسبة لهم وما به من قدرات تمثيلية جبارة مجرد عمل خيالي سطحي ومبهم لا يخرج منه المشاهد بأي شيء، والحقيقة أن الحكم على المشهد الأخير وحده سيكون لدى المشاهد حكمًا سلبيًا على العمل، ولذلك يجب على المشاهد إعادة أخر 10 دقائق أكثر من مرة حتى يصل إلى النقطة المقصودة من مشاهد النهاية والفكرة العامة التي تمثلت في نهاية "ريجن" بعد هبوط مستمر طوال أحداث العمل، فقبل مشهد المسرحية الأخير وصف "ريجن" العرض بأنه يجعله مجرد نسخة طبيعية منه ولا يقدم له أي رصيد أو أي شيء جديد وهو ما كان يؤكده "الرجل الطائر" في رأسه طوال أحداث الفيلم، ولكنه في نفس الوقت لا يمكنه العودة إلى ظل "الرجل الطائر"، فكانت عبارته الأخيرة بالمسرحية "أنا لست موجودًا"، قبل أن يقرر التخلص من "الرجل الطائر" وإطلاق النار على نفسه بمسدس حقيقي، وهنا سريعًا ينقلنا المخرج إلى مشهد سقوط "إيكاروس" وأجنحته المفتتة على الشاطئ مشيرًا إلى سقوط "ريجن" من أعلى درجات المجد إلى قاع النسيان، ولذلك يمكن اعتبار هذا المشهد هو المشهد الأخير فعليًا في أحداث العمل، أما مشهد المستشفى فقد كان مشهد سرياليًا تخيلي في عقل "ريجن" قبل وفاته، حيث تخيل أن تصيب الطلقة أنفه فقط في إشارة لتخلصه أخيرًا من "الرجل الطائر"، وتخيل أن النقاد يشيدون به ويعترفون بأنهم تجاهلوا موهبته طوال الوقت، وتخيل أن الأمور أصبحت في نصابها الحقيقي مع زوجته وابنته، وتخيل أنه قد وصل أخيرًا للشعور بالكمال والتحليق مجددًا في سماء المجد خارج ظل شخصيته الشهيرة بدور آخر.
لن أتحدث كثيرًا عن القدرات التمثيلية لطاقم العمل بأكمله ولا عجب أن الفيلم فاز بالعديد من الجوائز في فئات التمثيل الفردية والجماعية، وترشح ثلاثة من أبطاله لجوائز الأوسكار وإن كنت أرى أن أحقهم مايكل كيتون، ولكن جاء ترشيحه في عام قدم فيه إيدي ريدماين أفضل أداءته، أما على صعيد الإخراج والتصوير فاستحق الفيلم جائزتي الأوسكار بالفعل، حيث قدم الفيلم صورة مميزة ومختلفة برتم سريع ومشوق مع كادرات صعبة جدًا وجديدة، وإن كنت أرى أن فوز الفيلم بأفضل صورة صحيح لم يكن بعيد الحدوث ولكن فيلم "Boyhood" ربما كان الأحق بهذه الجائزة.
الفيلم يحتاج إلى مُشاهد صبور ومحب لعالم السينما وهوليوود بل ومحب أيضًا للأفلام النفسية التي طالما لاقت نجاحًا في السنوات الأخيرة مثل " Fight Club" و" Black Swan"، كما يحتاج إلى تركيز شديد حتى يستمتع بالصورة المقدمة أمامه على صعيد القصة والإخراج والتمثيل.