(تحذير: هذا المقال يحتوي على معلومة قد تكشف نهاية الفيلم، ينصح بقراءته بعد المشاهدة)
لم تكن لي صلة بالسينما الموريتانية من قبل، علاقتي بالسينما الأفريقية ككل بخلاف المصرية منها تنحصر في مجموعة الأفلام الأمريكية التي شاهدتها والتي تتناول أحداث وقعت داخل القارة السمراء علي سبيل المثال فيلم ( Hotel Rwanda 2004) للمخرج الأيرلندي تيري جورج وفيلم ( Black Hawk Down 2001) للمخرج الإنجليزي ريدلي سكوت، والذي تدور أحداثه في الصومال، وفيلم ( The Good Lie 2014) للمخرج فيليب فالارديو، والذي تدور أحداثه بين السودان وكينيا والولايات المتحدة الأمريكية.
كُنت دائما لا أعير اهتمامًا لمَا تنتجه أفريقيا من أفلام، وذلك ليقيني التام بأن هذه الأفلام ليست مكتملة ولا تحمل الطابع الاحترافي في التنفيذ وما هي إلا تجارب هواة تحكي معظمها عن الفلكلور والتراث، حقيقةً لابد أن أعترف أنني كنت مخطئًا، أتذكر جيدًا حالي عندما كنت أشاهد الأفلام المشاركة بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الرابعة مارس 2015، كنت وللمرة الأولى أخوض هذا العالم الغامض بمفردي وبشكل مكثف دون أي خلفيات شخصية تذكر، أحضر في اليوم الواحد ما يقرب من خمسة أفلام ما بين روائي طويل وقصير وتسجيلي، لم أكن أتخيل مدي التطور والتحول المذهل الذي وصل له الفن السابع في أفريقيا، خاصةً في البلدان التي لا تمتلك تاريخ عريض في هذه الصناعة.
وقد تصدر قائمة الأفلام الأفريقية ذات المستوي الفني العالي الفيلم الموريتاني " تمبكتو" أو "حزن الطيور"، الذي أنتج في مايو 2014 ونجح في أن يحجز له مكانًا ضمن قائمة الأفلام التسعة المرشحة للفوز بأوسكار كأفضل فيلم أجنبي هذا العام، قد كان "تمبكتو" للمخرج عبد الرحمن سيساكو سببًا جوهريًا في إعادة نظرتي للسينما بشكل عام، تلك النظرة التي دامت عشر سنوات كاملة.
الفيلم يناقش قضية التطرف الديني وما تمثله هذه القضية من خطر يداهم المجتمع العربي والإفريقي، وتلك التي باتت تنذر بانهيار أمم بأكملها وهدم كل ما هو جميل، الفيلم مأخوذ عن وقائع حقيقية في عدد من دول القارة فيحكي عن سيطرة جماعات جهادية علي مدينة "تمبكتو" شمال مالي، يحرمون سماع الموسيقي والغناء وحتي مزاولة لعبة كرة القدم كما يحكمون على الأهالي الذين يرفضون الخضوع لأوامرهم وقوانينهم بالجلد عشرين جلدة وأربعين جلدة وقد تصل في بعض الأحيان إلى الرجم العلني.
الفيلم يأسرك منذ الوهلة الأولى التي تشاهده فيها، شاشة العرض كادت تنطق من زخم المناظر الطبيعية التي يحتوي عليها الفيلم، اهتمام المخرج بالتفاصيل الدقيقة اتضح جليًا في المشاهد الخالية من الحوار، يتميز "تمبكتو" ببناء درامي متماسك وسيناريو محكم وإخراج متميز، تتابع المشاهد التي تحاكي الواقع وتنوع أحجام اللقطات والانسيابية التي تكمن بين طياته تجعلك تشعر بأنك لا تشاهد فيلمًا روائيًا طويلًا مدته ساعة ونصف، بل تشاهد عمل لا يتعدى بضع دقائق.
بعد تحريم لعب كرة القدم ومعاقبة كل طفل يلعب الكرة بعشرين جلدة، نجد أطفال "تمبكتو" غير مستسلمين وحبهم لكرة القدم كان أكبر بكثير من أي عقاب قد يحدث لهم، فنراهم يتخيلون وجود كرة قدم بصحبتهم وينقسمون إلى فريقين ويبدأون اللعب علي أرضية بسيطة صنعوها بأيديهم، على الرغم من أن الفعل الذي يحتويه هذا المشهد كان فعلًا وهميًا وغير حقيقيًا وذلك لعدم وجود كرة في الأصل إلا أنه كان مشهد في غاية المقاومة والإبداع وهو بالتأكيد من أقوى وأعظم مشاهد الفيلم.
في نفس السياق يتناول الفيلم قصة "كيداني" ذلك الرجل المسالم الذي يعيش حياة هادئة مع زوجته "ساتيما" وابنته "تويا" وابنه، يقضي يومه كله في تربية عدد من الأبقار، لازال يحسب نفسه بعيدا كل البعد عن الصراعات التي تدور في بلدته، لكن يفاجئ بأنه مزروع في وسط هذه الصراعات وذلك بعد أن تورط في قتل صياد السمك "أمادو" بالخطأ ثم يقدم للمحاكمة ويحكم عليه بالإعدام، أبدع سيساكو في كتابة السيناريو بقدر إبداعه في الإخراج كما وفق في اختياره طاقم التمثيل وكذلك أماكن التصوير، حيث تم تصوير معظم أحداث الفيلم في مدينة "ولاتة" جنوب شرق موريتانيا.
وعلى الرغم من وجود أكثر من لغة في الفيلم (العربية والفرنسية والتمشقية) والغموض الذي صاحب بعض المشاهد مثل مشهد قتل "كيداني" لـ"أمادو"، الذي ربما أحدث بعض الربكة والتشتت عند المتفرج، إلا أن نهاية الفيلم جاءت مفتوحة تحمل في مضمونها عمقًا إنسانيًا بعيدًا قد يظل سؤالًا يطرح نفسه لسنين مقبلة، وهو كيف نتصدى نحن العالم العربي لهذا الغزو الفكري الإرهابي؟
ينتهي الفيلم بمقتل "كيداني" وزوجته "ساتيما" على يد الجهاديين ونجاة ابنتهما "تويا" التي جاءت في مشهد مضطرب أخير وهي تجري في فزع وصوت أنفاسها السريعة يطغى على كل شيء، نستطيع أن نقول بدون أي مزايدة أن فيلم "تمبكتو" من أنضج الأعمال الدرامية ذات النكهة السياسية والاجتماعية فهو بالفعل عمل سينمائي موريتاني خالص تفتخر به السينما الأفريقية.