«لا توقظني لنهاية العالم، ما لم تكن تحتوي على مؤثرات خاصة ممتازة»
روجر زيلازني، أمير الفوضى (من سلسلة سِجلَّات العنبر)
فلتنس كل الهُراء الذي عُرض علينا طيلة السنوات الماضية وما يزال... انس كرنفالات المؤثرات الحاسوبية السخيفة التي تُغرقنا بها هوليوود كل عام... واستعد لتشاهد Blockbuster مختلف في كل شيء... فيلم صيف خارج من رَحِم سلسلة أفلام طوائف Cult Movies لم يختبر حِدَّتها وروعتها جيل مُشاهدي أفلام الكوميكس. ماكس المجنون -أو بالأحرى جورج ميلر المجنون- يعود إلينا أكثر عتهًا وجنونًا من ذي قبل، بفيلم لن تصدق جموحه ما لم تختبره بنفسك. يمكنك أن تغلق المقال بضمير مستريح إذا لم تكن قد شاهدت الفيلم بعد، لأن Fury Road هو من تلك الأفلام القليلة التي تُرى ولا تُروى، الأفلام التي لا تستطيع الكلمات أن تفيها حقَّها... لكني سأحاول أفضل ما بوسعي على أيَّة حال.
لمن لا يعرف، Mad Max هي ثلاثية أفلام ظهرت في أواخر السَّبعينيَّات إلى منتصف الثَّمانينيَّات من القرن الماضي، جاءت من أستراليا بتوقيع مخرج أسترالي مغمور آنذاك هو جورج ميلر، هذا المخرج قدَّم مواطنه الأسترالي ميل جيبسون -الذي كان مغمورًا أيضًا حينها- إلى العالم في مجموعة أفلام لم يستسغها الجميع، لكنها ألهبت خيال قلة قليلة، وصار لها أتباع مخلصون يقدِّسونها وكأنها دين سري ما. بالطبع انطلق ميل جيبسون بعدها ليصبح واحدًا من أشهر ممثلي ومخرجي هوليوود، لكن جورج ميلر لم يكن بنفس الحظ، ولم ترض ستديوهات هوليوود العملاقة أن تستخدم مهاراته، ربما لأنه كان غريبًا أكثر مما ينبغي، صادمًا أكثر مما يجب... ولسنوات ظل ميلر يصنع أفلامًا قليلة الشهرة لا يلتفت إليها أحد، ربما باستثناء Babe الذي حقَّق نجاحًا معقولًا.
لكن ها هو جورج ميلر يعود في العقد الثاني من الألفية الجديدة، وبذات عقليته المعتوهة من الثَّمانينيَّات، ليسرق العرض من الجميع. لا أعلم كيف استطاع الرجل أن يقنع ستديو كيندي ميلر أن يعيد تجربة Mad Max وأن يسمح له بتقديم فيلمه بهذا الشكل، وبتلك المؤثرات الفيزيائية الكثيفة التي تصنع أمام الكاميرا، في عصر بات الاستسهال فيه هو اسم اللعبة... بالتأكيد لم يكن الأمر سهلا، ولابد أن ميلر قد عانى الأمرَّين في هذا. لك أن تعلم أن المشروع بدأ الإعداد له منذ عام 2003 لكن تم تأجيله أكثر من مرة لأكثر من سبب. المهم أنه فعلها في النهاية... ويا لها من فعلة!
الفيلم بالكامل تقريبًا مؤثرات فيزيائية تم تصويرها أمام عدسة الكاميرا المذهولة. أكثر من 80% من الفيلم مؤثرات حية وعملية Practical Effects. خدع الـ CGI أو الكمبيوتر جرافيك لم تُستخدم سوى لتعزيز الصورة البصرية لصحراء ناميبيا الإسترالية، وربما في مشهد العاصفة فقط. أنه الاستخدام القديم والأمثل للتقنية، دون الإفراط السخيف الذي يفقد كل شيء مذاقه. تراكُب المعارك والمطاردات الواحدة تلو الأخرى استثنائي، والحفاظ على الميزانسين داخل التتابع الواحد مُعجز، وهو أمر لم أختبره منذ المُدمَّر الجزء الثاني. باختصار الفيلم شاطور عملاق سيشجك لنصفين من فرط عنفه وعنفوانه.
يسير ميلر في الجزء الجديد على نهج الجزء الثاني من الثلاثية القديمة. الصورة المحورية سيريالية إلى حدٍ كبير، وهي تحوُّل البشرية لجنون غير مُبرَّر... نحن الآن في سنة غير مُحدَّدة في المستقبل، العالم أصبح صحراء جرداء بعد محرقة نووية التهمت كل شيء... القلَّة القليلة الناجية من البشر تعيش في مجموعات وقبائل متناحرة، يقضون نهارهم في محاولة العثور على الوقود الذي أصبح هو ذهب هذا العصر، وفي الليل يضمدون جراحهم استعدادًا لليوم التالي... القانون واحد وبسيط: لا قانون؛ فقط انج للغد، هذا هو ما عليك فعله، ومن أجل تلك الغاية كل الوسائل مُبرَّرة بما في ذلك القتل.
وسط هذا العالم الصاخب يبرز ماكس، شرطيّ سابق تعرضت زوجته وابنته للدهس أمام عينيه العاجزتين (ترى هذا في الجزء الأول من السلسلة)، ليستقيل من عمله ويبدأ في الانتقام من الجميع وتطهير العالم من الطغاة لكن بطريقته الخاصة. إنه نقيض البطل المعتاد، بطل أكثر توحشًا من الطغاة أنفسهم، وويل لمن تلقيه الظروف في طريقه.
هذا هو كل شيء بخصوص القصة، وهذا تعرفه بالكامل على لسان الراوي في أول دقيقتين من الفيلم، ما يأتي بعد ذلك هو مطاردة واحدة متَّصلة مدتها ساعتين... عُنف بربريّ رفيع المستوى، وحركة بحتة لا تتوقَّف... تتابعات فائقة القسوة والجمال لن تصدقها ما لم ترها، لوحات من العنف المُركَّز ستجبر كل صانع أفلام بعد ذلك على ليّ رقبته بعنف لأعلى كي ينظر لها ويسأل نفسه: ما الذي يمكن أن أقدمه بعد؟
الفيلم يفرض منطقه الخاص بشدة، ولا يتيح لك فرصة مناقشة فكرته الغريبة عن أن الوقود هو وحدة التعامل في عالم ما بعد المحرقة. هذا راجع إلى سبب جوهريّ خاص بسلسلة ماكس المجنون، إنها ليست أفلام خيال علمي بالمعنى المتعارف عليه... لقد جاء اختيار ميلر لعالم ما بعد المحرقة كمسرح لأحداث أفلامه لما يمنحه هذا العالم من براح يسمح له بتقديم كل ما يدور في عقله من مجون وعبث في تتابعات المطاردات، تلك التي لا تحتملها أي بيئة مُعاصرة أو ماضية... ميلر كان يريد بيئة مفتوحة وجرداء كي لا يُحدَّه شيء، لذا لجأ لهذا الاختيار، وهو في هذه التفصيلة يُذكِّرنا مرةً أخرى بالمُدمَّر.
فيلم المُدمَّر ظهر للوجود نتيجة لحُلم راود جيمس كاميرون أثناء نومه، حلم كاميرون بآلي غاشم القوة يحمل سلاحًا ويخرج من وسط النيران... ظلَّت تلك الصورة تطارده لليالٍ عديدة، إلى أن قرر التخلص منها بوضعها في فيلم... ولأن الإمكانيات وقتها -في منتصف الثَّمانينيَّات- لم تكن تسعفه لتقديم فيلم يدور في المستقبل (ميزانية الفيلم الأول كانت شِبه صفريَّة)، فقد احتال كاميرون على هذا وابتكر مسألة السفر عبر الزمن إلى الماضي وبنى عليها فيلمه، فقط لتدور الأحداث في الوقت الحاضر. جيمس كاميرون اعترف بعد ذلك أن Mad Max 2: The Road Warrior كان أكبر إلهام له لتقديم المُدمَّر، أما إلهام ميلر نفسه لتقديم ماكس كان أمرًا مُختلفًا تمامًا، ونتج بشكل أساسي من فترة عمله كطبيب مُقيم في غرف طوارئ مستشفى سيدني بأستراليا في بدايات السَّبعينيَّات... الوجوه المشوَّهة والأجساد المُمزَّقة التي كانت تأتيه بشكل دوري من جراء حوادث سيارات الطريق السريع طاردت كوابيسه طويلًا، وكان لابد له من التخلص منها هو الآخر.
صنع ميلر كل شيء في الفيلم بالطريقة القديمة الصعبة، وقام بإعداد الـ Storyboard الخاص بالفيلم كاملًا قبل كتابة السيناريو، وهذا لأن كل ما كان يشغل باله هو الحركة، وتقديم فيلمه كما يراه داخل عقله: مُطاردة واحدة مُتَّصلة. الـ Storyboard تكوَّن من 3500 شريحة تُفصِّل لكل شيء سيظهر في الفيلم، وتم إضافة الحوار بعد ذلك كنوع من المؤثرات الصوتية لا أكثر. الفيلم أيضًا -وللغرابة- تم تصويره مُرتَّبًا، وهو أمر نادر الحدوث في عالم السينما، المثال الأبرز قبل ذلك هو فيلم E.T. the Extra-Terrestrial، عندما أراد ستيفن سبيلبرج لممثليه الأطفال أن يتعلَّقوا بالمخلوق الفضائي الوادع لأقصى درجة، ويزرفون دموعًا حقيقية عليه في النهاية.
حسنًا، عودة لتفاصيل الفيلم الدقيقة... اختار ميلر أن يضع قناعًا حديديًّا على وجه توم هاردي طيلة الثلث الأول من الفيلم، هذه كانت (خبطة معلم) حقيقية... ميلر يعرف جيدًا أن عشاق الثلاثية القديمة لا يعرفون سوى ماكس واحد فقط هو ميل جيبسون، ولن يرضوا به بديلًا... وبإخفاء معالم وجه هاردي استطاع ميلر أن يجعل الجميع يتقبَّلونه كماكس بمنتهى السهولة، وعندما نزع القناع أخيرًا كان قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من العالم... أيضًا أداء توم هاردي كان شديد الروعة، اقتبس الكثير من جنون ميل جيبسون في الأفلام القديمة، وأضاف عليه الكثير من جنونه الخاص.
ماذا أيضًا؟ التنميق؟ حدث ولا حرج، البهلوانيات حدث ولا حرج، تصاميم الأزياء حدث ولا حرج، تصاميم المركبات، الأداءات، الموسيقى التصويرية، كل شيء... يا الله، ما كل هذه الروعة! ضف على هذا أن الفيلم تم تصويره بالكامل في قلب الصحراء، في بيئة مُعادية للغاية، لا وجود هنا لخدع فصل الكروما والشاشة الخضراء اللعينة، استخدامها أتى في أضيق الحدود... كل ما ستراه بعينيك هو نفسه ما رأته عدسة الكاميرا من قبلك، ولم يمر على حاسوب ليضيف إليه أي شيء، ربما ليُعزِّز ألوانه فقط.
جورج ميلر يُظهر هنا معرفته بكل ما تدور حوله السينما، إنه صانع أفلام عملاق قديم الطراز، من الرعيل الذي ما زال يتمسَّك بصناعة السينما كما عرفها وأحبها جيل الثَّمانينيَّات، وهو في هذا شبيه جدًا ب كوينتن تارنتينو، واستطاع بـ Mad Max: Fury Road تقديم واحد من أفضل أفلام الحركة منذ عقود، وربما في التاريخ. لا تنتظر دراما كثيفه هنا، لكن انتظر كثافة في الأجواء ليس لها مثيل، هذا فيلم سيرضي هؤلاء الذين يعشقون السينما على مستوى البنية الأساسية حتى النخاع... التكنيك هنا هو اللاعب الرئيسي، وهو لاعب يعرف ميلر كيف يُوظِّفه كما يجب...
كفاني مدحًا... اذهب وشاهد الفيلم، ولتنبهر بنفسك!