طوال 75 عامًا من العمل الفني، كانت الفنانة الراحلة فاتن حمامة أشد المخلصين للسينما كفن وللمدينة كعالم تتحرك فيه بفنها، أما عن السينما فقد تشربت كل خبرات العمل أمام كاميراتها منذ الصغر للدرجة التي يمكن معها وصف أدواتها التمثيلية بأنها أدوات سينمائية صرف لم تتسرب إليها أي أدوات مسرحية ولو بقدر شعرة، ولم تقترب حتى من أي خشبة مسرح طيلة حياتها، وظل الوجه هو أداتها الأساسية في كل مرة تباشر فيها الكاميرات بالتصوير بعد "أكشن".
وأما عن المدينة، والمقصود بها هنا بالطبع العاصمة، فقد كانت هى ذلك الحيز الكبير الذي أحبت طرقاته وشوارعه وبيوته، وتحركت بين كافة طبقاته وأطيافه، وصارت ممثلة لكل أهل المدينة الكبرى على تنوع مشاربهم، كانت ابنة القصور وابنة الحواري، كانت حبيبة وابنة وزوجة وأم، خانعة وثائرة، مقدسة ومدنسة، كانت كل شيء تمثله المدينة في فداحة التنوع الذي ينفرط من كل شرفات المنازل ونواصي الشوارع والأبراج المتاخمة لغيوم النهار ونجوم الليل.
ومع تخصصها شبه الكامل في تقديم كافة أصناف الشخصيات المنتمية للمدينة الكبرى، كانت تحب بين الحين والآخر أن تخرج من أسوار المدينة في عدد من أفلامها السينمائية بالإضافة إلى كونها آتية في الأساس من مدينة المنصورة، لذا فنحن نحاول هنا أن نتلمس بعض خطوات فاتن حمامة خارج العاصمة.
بلطيم، كفر الشيخ:
في مطلع الخمسينات، لم تكن بلطيم في ذلك الحين كما نعهدها الآن في أيامنا، أرضها المجاورة للبحر كانت صحراء جرداء لم يستوطنها الكثير من البشر، ولكن لا يهم ما كانت عليه هذه الأرض وقتئذ، فقد كانت بالتأكيد بقعة مثالية لكي تغني فاتن حمامة برفقة الفنان الراحل فريد الأطرش خلال تصوير فيلم لحن الخلود، لا زلنا نلمس الكثير من الفرحة والحميمية في الهواء حينما كانا يغنيان معًا (جميل جمال مالوش مثال).
ولكن بعد نهاية أيام بلطيم الحلوة، لماذا استحيت فاتن أن تسمعنا صوتها مرة أخرى حينما عادت مع فريد في حكاية العمر كله؟ لماذا؟
وادي الملوك، الأقصر:
كأن أعمارًا كاملة لم تمر، نحن لا زلنا أبناء الأمس حتى لو كان أمسًا لم نعشه، هنا في وادي الملوك كان الحب ينبت بلا أمطار ولا بذور تحت شمس معذبة تلفح رأس الرائح والغادي من هذا الوادي.
هنا في هذه الأرض القفرة تبخرت كل المسافات مع حرارة الأجواء ودفء القلوب حين قبلت آمال أحمد لكي تهون عليه مما يقاسيه، كانت قبلة تتجاوز حدود التمثيل إلى مشاعر حب في طور التشكل من فاتن نحو عمر الشريف مع أول وقوف أمام الكاميرا لأجل صراع في الوادي.
بين مقبرة رمسيس السادس ورمسيس الثالث، كانت حرارة الجو تبذر مشاعر العداء مثلما تبذر مشاعر الحب، حيث عاش مفترق المقبرتين معركة مصيرية ومنتظرة بين أحمد ورياض لا ننسى وقائعها، كأننا كنا مع الجمهور في دور العرض نترقب معهم انتصار أحمد في المعركة العنيفة.
ناهيا، كرداسة، الجيزة:
كانت مأساة عزيزة أكبر من أن يحتويها مجرد فيلم واحد، واكبر من ان تحكى شفاهيًا أو كتابيًا أو حتى بصريًا، بل ربما كانت عزيزة هى مرادف المأساة نفسها في كل شيء، كان الحرام بعينه كما أراد له يوسف إدريس أن يكون في خياله الأدبي.
لذا كانت المأساة تحتاج إلى كل صدق العالم الممكن من أجل تقديمها على الوجه الأمثل، حتى أن زكي رستم كان يسير بركبة منثنية خلال التصوير لكي يبدو كناظر عزبة حقيقي.
بل وصلت الجدية للمخرج هنري بركات إلى قيامه بإرجاع الأوتوبيس الذي كان يقل الممثلين الثانويين القادمين من القاهرة، ليستعين بدلًا منهم بفلاحين حقيقيين يعرفون ما يكون عليه الأمر حقًا.
على مقربة من الفيوم:
كان طه حسين خائفًا، وكان محقًا في خوفه، هل ستستطيع ابنة المدينة البارة أن تتحول إلى الفتاة البدوية آمنة كما نسجها بخيوط حروفه في روايته دعاء الكروان؟
وعلى قدر خوف الدكتور طه، كانت فاتن خائفة هى الآخرى، خرجت من لقائه والدمع يسيل على خديها وهى تحدث المنتج عن سبب اختيارها.
لكن كل الخوف انقشع واختفى تمامًا فور عرض الفيلم، ويبشرها أن ما قامت به في الفيلم هو عين ما كان يعتمل في خياله حينما منح لآمنة كينونتها.
بورسعيد:
في الأيام الخوالي، كان الجمهور يملك سلطة مخيفة لكل من يصنع فيلمًا، وكان كل من يعمل على فيلم جديد لا ينام في فراشه قرير العين إلا إذا سعد الجمهور بما شاهد.
أتعلمون لأي مدي كانت هذه السطوة؟ بعد أن انتهى صناع فيلم حب ودموع من تصويره وقاموا بعرضه في بيروت، لم يتقبل الجمهور النهاية واستاءوا منها، ولم يكن باقيًا على عرضه في مصر سوى ثلاث أيام، ولن يستقبل الجمهور المصري الأمر بسلام.
لكن الحل كان يتمثل في العودة إلى بورسعيد مرة أخرى من أجل إعادة تصوير النهاية لكي يتزوج الحبيب من محبوبته ولا يفترقًا بعدها أبدًا، حتى بعد حلول كلمة "النهاية".
(*) فكرة المقال مستوحاة بشكل غير مباشر من كتاب (أطلس القاهرة الأدبي) للكاتبة والمترجمة د/سامية محرز