لا أدرى كيف من المفترض أن نبدأ الحديث عن عمل يحمل فى طياته هذا الكم من العظمة والعبقرية، ولكنني أكيدة أننا قبل أي شيء، يجب أن نبدأ بإنحناءة شكر لكل من تامر محسن و مريم نعوم على منحنا " تحت السيطرة".
بالنسبة ليّ تامر محسن هو مخرج مختلف لا يشبه أحد، فأجمل ما فى أعماله هي التفاصيل. وهذا لم يكن وليد اللحظة وإنما هو أسلوب تميز به منذ البداية، فإذا تأملت معي مسلسله " بدون ذكر أسماء" _على سبيل المثال وليس الحصر_ ستجد عملًا تُرفع له القبعة بدايةً من التتر وحتى كتابة الشخصيات والعناية بدقة بتفاصيلها إلى الحوار الذى كُتِبَ بطريقة تجذبك لتنتهي من العمل إلى نهايته ومرورا بأداء الممثلين لأدوارهم، وهنا تكمن عظمة تامر محسن فى نظري، فأحد مهام المخرج الناجح هي أن يُخرِج من الممثل أمامه أكثر مما يعلم هذا الممثل أنه قادر حقًا على إخراجه! وهذه مهمة أؤمن أنها خُلقت خصيصًا لمخرج كتامر محسن.. ففى "بدون ذكر أسماء" خرج علينا العديد من الممثلين في أدوارٍ لم نعهدهم بها من قبل ولكن المبهر حقا كان إعادة اكتشاف جوانب تمثيلية جديدة لهؤلاء النجوم، بدايةً من أحمد الفيشاوي و روبي، نجمي العمل، مرورًا بـ شيرين رضا التي أعتبر هذا المسلسل هو عودتها الحقيقية للشاشة وصولًا إلى وليد فواز فى دور من أجمل ما كُتِبَ على الشاشة وأخيرًا النجم الذى وجد ضالته في كاميرا تامر محسن سواء في "بدون ذكر أسماء" أو "تحت السيطرة"؛ محمد فراج. وحتى نختتم الحديث عن "بدون ذكر أسماء" ونعود للحديث عما ننشده. بعد أن شاهدت هذا العمل في رمضان 2013 اتخذت قرارًا ألا أدع عملاً لتامر محسن يمُر علىّ دون أن أكون قد شاهدته!
أما مريم نعوم فهي لا تحتاج إلى أي مقدمات، أعمالها تتحدث عنها وكفى! ولثالث سنة على التوالي لا ينتهي رمضان إلا ويكون عملها محل حديث المدينة حرفيًا وبدون أدنى مبالغة، ولكن هذا العام تبدو مريم نعوم وكأنها تدخل السباق الرمضانى بذكاء شديد، فبعد اتهامها طوال العامين الماضيين بأنها كاتبة عاشقة للنكد والميلودراما التمثيلية، تقرر نعوم هذه السنة أن تبرهن على نظرية اختلاف الواقعية عن "النكد"، وهو اختلاف لو تعلمون عظيم! ويظهر ذلك جليا فى النهاية التي اختارتها نعوم لعلاقة "مريم وحاتم"، فأي كاتب آخر كان سيلجأ لأحد نهايتين، إما النهاية التعيسة فى عدم رؤية مريم لطفلتها ثانيةً، وإما النهاية السعيدة غير المبررة فى عودة مريم لحاتم وعيشهم سويًا فى تبات ونبات. وهو دربٌ من الخيال وتحديدا بعد احتدام الصراع بينهما بعد اكتشاف حاتم لإدمان مريم واستخدامه ذلك ضدها في حرمانها من الطفلة التى لم يردها هو منذ البداية!
هنا جاءت أكثر خاتمة ملائمة لطبيعة وواقع شخصياتها، وهي في نظري النهاية الربحانة. وهنا الفرق بين الكاتب العادي والكاتب الفاهم المتوحد مع شخصياته لأبعد حد، لدرجة أنه لا يتبع أهواءه_بفرض أن أهواء مريم نعوم كئيبة انتحارية كما يدعى البعض_ وينحي مشاعره جانبًا ويختار النهاية المنطقية لتسلسل أحداثه، فجاءت النهاية طبيعية فى رجوع الطفلة لأمها دون الخوض فى تفاصيل إمكانية رجوع مريم لحاتم من عدمها فى مشهد هو الأوقع والأنضج من وجهة نظري.
والآن نعود أدراجنا لمخرج العمل الذى نحن بصدده، تامر محسن. لنحمد الله على رزقه لنا بمخرج يحمل بداخله هذا الكم من الكفاءة والاجتهاد؛ ويتضح ذلك أكثر لمتابعيه على تويتر، فهو لا يقوم فقط بمتابعة كل صغيرة وكبيرة تُكتَب عن عمله بل كذلك يهتم بالرد على الكثيرين ممن يناقشونه في أحد مشاهده سواء بحثا عن تفسير لبعض الحقائق العلمية التى يجهلونها عن حالات الإدمان بالعمل أو حتى للسخرية من العمل نفسه إذا ما وجدوه غير منطقى فى بعض ما جاء به، هنا يقوم تامر بالرد على كلا الفريقين بالحقائق العلمية التى يفهمها ويعيها جيدا وكذلك التفسيرات الدرامية لشخصياته دون الحجر على تفكير أو خيال المتفرج ليتركه يستمتع كذلك بالعمل.
إذًا فنحن أمام مخرج لا يعتبر ما يقدمه مجرد "مهنة" وإنما هو شيء أسمى وأهم من ذلك جعله يدرس حتى الجوانب العلمية والطبية ويلم بها جيدا لينقل للمشاهد الصورة الحيّة لقضيته دون "أفورة" درامية أو سطحية فى تناول مثل هذه القضايا المجتمعية الشائكة.
بصراحة شديدة، عندما شاهدت إعلان المسلسل قبل رمضان بعدة أيام لم أتحمس لمشاهدته رغم مواظبتي على مشاهدة أعمال نيللي كريم الرمضانية لعامين متتاليين، ربما لتصوري أنه سيكون عمل مثل بقية الأعمال التى تناولت قضية المخدرات لتقدم نماذج متشابهة تفتقر للمصداقية فى أداءها وتقدم شخصية المدمن بشكل نمطي متكرر رغم دسامة تلك الشخصيات وكثرة جوانبها التى يجب أن يستفيد منها الفنان حتى آخر قطرة فى تلك الشخصية.
تشبثت بتلك الفكرة حتى وجدتنى أشاهد أولى حلقات المسلسل وتوالت الحلقات حتى وجدتنى أتسرع فى حكمى مرةً أخرى معتبرة المسلسل "منحوت" من رواية "ربع جرام" وهى لمن لا يعرفونها رواية تتناول حيوات رفقة من المدمنين منذ طفولتهم مرورا بتعاطيهم المخدرات وصولا لنهايتهم سواء بالموت أو السجن أو المرض أو التعافى، وكانت تُروَى على لسان بطلها كقصة حقيقية. كما هو الحال مع مسلسلنا هنا. وظللت تحت سيطرة ذلك الحكم حتى أصابنى ما أصاب بقية من شاهدوا العمل ووقعت تحت سيطرة أحداثه وعبقرية أداء أبطاله، لأعترف فى النهاية أننى تسرعت فى حكمى وكنت ضيقة الأفق عندما قارنت عملين مختلفين ببعضهما لمجرد تشابه الموضوع الذي يتناولانه.
نعم هذا حُكم شديد السطحية وللأسف كثيرين يقيمون الأعمال بهذه الطريقة الظالمة. ولكن هذا لا يمنع أنني شعرت بالسعادة لقراءتى الرواية السابق ذكرها قبل رمضان بحوالي شهر، فقراءة تلك الرواية جعل من السهل علىّ تفهُم الكثير من مصطلحات وأحداث المسلسل كحقيقة أن المدمن الذى قد وصل لقاع إدمانه لا يصدق أن هناك ما يدعى بـ"التبطيل"، فهو يعتبرها فعلا أسطورة أو خرافة! كذلك الفكرة التى تقوم عليها زمالة المدمنين المجهولين وماهية تلك الزمالة وفكرة الاجتماعات والخطوات التى يجب على كل مدمن قرر التعافي أن يشتغلها، والكثير والكثير عن حياة المدمنين وتطور مراحل إدمانهم وأنهم لا يمرون بتجربة "تبطيل" واحدة وإنما أحيانا يتطلب الأمر أكثر من محاولة فاشلة ليصل المدمن إلى التعافى نهائيا وأحيانا قد لا يصل.
ومن هنا أردت أن أعتب على مريم نعوم وتامر محسن فى عدم توضيحهما للكثير من المفاهيم الخاصة بحياة المدمن والتى لا يعيها الكثيرون وإنما استرسلوا فى الحديث عنها ضمن الأحداث تاركين للمشاهد مهمة تشكيل الصورة النهائية، كلعبة المكعبات والتي قد لا يجيدها البعض. لذلك نصيحة لمن لم يقرأوا رواية "ربع جرام" وقد أعجبهم المسلسل ويريدون معرفة المزيد عن هذا العالم، عليكم قراءة تلك الرواية فأنتم تفوتون على أنفسكم الكثير.
وكما كان تامر محسن هو أول من أرانا مدى موهبة "روبي" الحقيقية في "بدون ذكر أسماء" عندما حولها من تلك الفتاة الجذابة إلى "مبسوطة" تلك التي تنام على الأرصفة وتشحت لتكسب قوت يومها خارجا بها من إطارها الذى اعتدنا عليه لشيء مختلف تمامًا شكلا ومضمونا للدرجة التى كانت تبهرنى كلما أطلت روبى فى مشهد على الشاشة. نعم كان السبق الأول فى إظهار موهبة روبى كاملة متكاملة لمكتشف الكنوز "تامر محسن" وهو نفس ما قام به مع " أحمد وفيق" والوجه الجديد" جميلة عوض".
صحيح أن هذا العمل ليس الأول لـ"وفيق" ولكنني كمتلقي لم أشعر بموهبة تُذكر فيه حتى شاهدته فى دور "طارق"، فلم أكن أعلم أن ذلك الشخص الذي لم ينجح فى لفت نظري في أي مما قدمه من قبل، قادرًا على أن يكون أحد أفضل عناصر هذا العمل. أحمد وفيق أو "طارق" جعلني أمُر معه بكافة مراحل الشخصية فكرهته وهو منتكس وتعاطفت معاه وهو يتوسل لزوجته لتسامحه وتساعده ويؤكد لها أنه سيتغير، ودعوت عليه بالموت عندما انهال عليها ضربا حين أجهضت، وعندما "ضرب" لأخوه أخر جرعة ومات بسببها "أوفر دوز"! فالشكل الذى بناه وفيق مع تامر محسن لتلك الشخصية ولبسها ونظرة عينيها وأداءها وحتى نبرة صوتها فى كثير من مشاهده، كل ذلك يؤكد أننا بالفعل أمام ممثل ذو قدرات تمثيلية أكثر من مبهرة، لكن للأسف لم يستوعبها أو يكتشفها أحد من قبل. لذلك شكرا تامر محسن!
أما تلك الهدية التى أهدانا إياها تامر محسن هذه السنة، تلك "الجميلة عوض"، نعم أطلق عليها الجميلة وليس جميلة فقط لأنها قمة فى الجمال! ولا أقصد هنا جمال الشكل الذي ورثته عن أمها الممثلة القديرة " راندا قطب" ولكنى أقصد جمال أداءها وبساطته وسلاسته، فكيف لفتاة لم تقف بحياتها أمام كاميرا أن تقدم شخصية مركبة إلى هذا الحد كـ"هانيا"! أولا، وقبل الخوض فى قدراتها التمثيلية، وجب علينا كمتلقيين أولا وأخيرا أن نمدح ذكاءها فى إخفاءها لعمرها الحقيقي، فالكثيرين قد يعتبرونها تفعل ذلك شأنها شأن كافة البنات والسيدات فى إخفاءهن لأعمارهن، ولكن جميلة لم تفكر فى ذلك، ودون بحث أعلم تمام العلم أنها ما فعلت ذلك إلا لتستخدم أداءها فى إقناع الجمهور دائمًا بعمر مختلف، فأنا أكيدة أنها ستخرج علينا فى عملها القادم فى عمر أكبر من عمر "هانيا" وستقنعنا أنها بالفعل تنتمي لهذه المرحلة العمرية كما أقنعتنا فى "تحت السيطرة" أنها بالفعل ابنة الستة عشر عامًا رغم أنها فى فئة عمرية أكبر من تلك التى تقمصتها وأجادتها وأقنعتنا بها. فتحية للموهبة الجديدة فى ذكاءها وإدراكها أنه طالما قد اقتنع الجمهور أنها أصغر من 16 سنة فلما قد أفسد عليهم ذلك بإخبارهم عن حقيقة عمري وأفوّت الفرصة في قدرتي على مفاجأتهم طوال الوقت بأدوار مختلفة ليحكموا علىّ بأدائي وقدرتى على التوحد مع الشخصية التى أقدمها أكثر من معرفتهم لسني والحكم به على عملي. من هنا ندرك أن جميلة تشبه "هانيا" كثيرا، على الأقل فى شدة ذكاءها!
بصراحة وبعد مراجعة اكتشفت أنني لن أستطيع الحديث عن شخصية "هانيا"، فسيخونني التعبير ولن أجد أبلغ مما قالته عنها أمي أثناء مشاهدتها لأحد مشاهدها: "أنا لو عندي بنت عندها القدرات التمثيلية والموهبة دي، لازم أكون فخورة وفرحانة بيها"! ولكن بما أن المشهد بألف كلمة فدعونا نقف طويلا أمام مشهدها ونظرتها بعدما صارحها "علي" فى لحظة صدق أنها ليست مثل شقيقته! ثم نتوقف مرةً أخرى عند مشهد ما بعد اغتصابها على يد تاجر المخدرات وعودتها لعلي وهذا الكم من التعبير بالصمت الذى أجادته كما لم نر ممثلات محترفات يفعلن من قبل، فهي لم تتفوه بحرف طوال المشهد ولكن كل إنش فى جسدها ووجهها كان يصرخ بالحديث، ونتوقف مرة أخيرة أمام كافة مشاهدها فى الحلقة الأخيرة بدايةً من مشهد اعتداء علي عليها مرورا بمشهد أخر جرعة مخدر وما ترتب عليه ووصولا لمشهد النهاية الذى أبكت فيه الجميع، ليس فقط لجلوسها على ذلك الكرسي المتحرك ولكن لأداءها الذى جعلنا فى أقل من دقيقتين نتذكر معها كل ما مرت به منذ بدأت رحلتها مع المخدرات وحتى قررت التعافي.
دعونا نتفق أولا أن مريم نعوم تتقاسم مع تامر محسن نفس القدر من الشكر على شخصية "هانيا" لأنها كتبتها كما لو كانت هي "هانيا" نفسها وقد جلست لتكتب مذكراتها أو قصتها مع المخدرات! فردود فعل الشخصية فى المشاهد السابق ذكرها، لم يتوقعهم المشاهد بالمرة! فأي فتاة تشاهد العمل كانت أكيدة أن "هانيا" ستترك "علي" أو تكمل معه بحكم اجتماعهما على المخدرات فقط وستموت بداخلها المشاعر تجاهه، ولكن ما حدث كان العكس تماما. فـ"هانيا" أكدت ذلك فى كلامها لمريم فى أحد المشاهد قائلة "بس أنا بحب علي وعايزة أفضل معاه".
مريم نعوم لم تكتب هذه الشخصية لتطابق نمطية ما يشبهها من شخصيات قد تكون ظهرت فى أعمال سابقة، لكنها كتبتها وهى تعلم تمام العلم أن المراهقة التى أهملها أهلها لتكون وحيدة _كما وصفها علي فى بداية علاقتهما_ تشعر ناحية أول إنسان يظهر لها هذا الكم من الاهتمام والحنان على أنه بطلها الأوحد الذى يحقق لها أحلامها المجنونة، فهو من تجده إلى جوارها عند حافة الخطر التى تعشقها وتبحث عنها بحكم كونها مراهقة.
ولكن الشكر الأكبر على الشكل الذى خرجت به الشخصية، يرجع إلى الجميلة عوض نفسها، لسبب بسيط وهو أن التمثيل بنظرة العين وكل سنتيمتر فى الجسد، هو شيء لن يستطيع أحد أن يعلمه أو يلقنه للممثل إذا لم يكن يمتلك الموهبة من الأساس حتى وإن أتوا له بمئة تامر محسن وعشرة مريم نعوم! فامتلاكها تلك الهبة الربانية من أول "أكشن" يجب وأن يُقابل بـ"برافو" جميلة.
وطالما قد ذكرنا "هانيا" فيجب أن يليها فى الذكر "علي" أو محمد فراج، فكما قام تامر محسن بتقديم "فراج" بشكل مختلف فى "بدون ذكر أسماء" فى دور "رجب الفرخ"، أعاد الكرة معه ثانيةً فى "تحت السيطرة"؛ فعندما نتأمل مشاهده منذ مشهد بكاءه على الجنين الذى فقدته هانيا وحتى أخر مشهد له فى المسلسل ستجد أن هذا الممثل عاشق لتفاصيل شخصياته، مبهر في أداءه لها، يخلص لها تمام الإخلاص لعلمه التام أنها سترد له المعروف من خلال نظرات إعجاب الجمهور بأداءه. وأنا أحترم ذلك النوع من الممثلين الذى يهتم بكل ذرة فى الشخصية التى يلعبها.
لا نستطيع كذلك إغفال أدوار مهمة للغاية كدور "إنجي ومعتز"، ربما لم يكونا محور الاهتمام منذ البداية ولكنهما أبدعا بلا شك فى مشاهد "الماستر سين" الخاصة بشخصياتهما؛ فتجد "معتز" ذو أداء لامع فى مشهد حبس نفسه داخل سيارته لتعاطي أخر جرعة مخدر قبل القبض عليه وكذلك مشهد مصارحته لإنجى بحقيقة مرضه. وعلى الجانب الآخر نرى إنجى تؤدي ببراعة مشهد إخبارها لطارق سبب حزنها وتأثرها بخبر القبض على معتز ومرضه، وأخر مشاهد شخصيتها عندما تحادث والدتها تليفونيًا قبل إقدامها على الانتحار.
4 مشاهد تمكن فيها ممثليها من أدواتهم إلى أقصى درجة ممكنة جعلتنا ندمع لما نرى ونسمع حتى أننا دعونا لهم فى لحظة بالشفاء والتراجع عن خاتمة تلك الشخصيات. ولكن سبق السيف العزل!
كذلك هبة عبد الغني، التي أدت دور تاجرة المخدرات بتقمص فاق الوصف حتى لا تملك إلا أن تجد نفسك تتعاطف معها تارة وتلعنها فى أخرى من شدة صدق أداءها للدور بكافة جوانبه. وعندما تتأمل أدوار ربما لم تظهر كثيرا على الشاشة ولكن دائما كان لحضورها بريق مميز وخاص بها، تجد نفسك تشيد بصدق أداء العظيم عبدالرحمن أبو زهرة فى دور الأب المريض بألزهايمر ولكنه مازال قادرًا على تذكر طباع ولده، ثم تلتفت لتعجب بخفة روح وجمال الفنانة ليلى عز العرب فى أداءها لدور فريدة، تلك المرأة التى تلازم والد حاتم فى منفاه الأخير لتكون عون له على الدنيا فى أيام وحدتهما الأخيرة، وتصل أخيرا لدور والدة "طارق" التى تفطر قلبك وتتعاطف معها بقوة أداءها فى مشهد طردها لابنها المدمن من المنزل عند قيامه بسرقتها وتجدها أخيرا تقف باكية على ولدها الأصغر الذى فقدته نتيجة لجرعة زائدة من المخدر أعطاها له أخيه الأكبر!
ذكرنا الكثير من الإيجابيات؟ فلننتقل إلى السلبيات، والتي لا أعدها سلبيات بقدر ما أراها نقاط لم تضعف العمل ولكنها أيضا لم تُضِف له. فجاءت أدوار "حاتم، شريف، شيرين، مايا، هشام" باهتة لا تحمل فى طياتها ما تتطلبه الشخصية من انفعال أو تفاعل فى بعض المشاهد لتخرج فى النهاية مخيبة للآمال، ليست ذو تأثير قوي كمثيلاتها. الوحيدة التى لم أستطع تحديد موقفي تجاه أداءها هي "سلمى" فتارةً يكون أداءها فاتر لا يليق بحجم وطبيعة المشهد وتارةً أخرى يكون أداءها مفعم بالإحساس لتجعلك تشعر تماما بما تشعر هى به كما كان الحال فى مشهد اعتداء "طارق" عليها بالضرب بعد إجهاض جنينها ومشهدها عند اكتشاف جثة "كريم" وانهيارها أمام "طارق".
وعلى سبيل الاستراحة قليلا من تقييم أداء الأبطال، دعونا نتأمل الموسيقى التصويرية للمسلسل التى لا نملك حين ننصت إليها تتسرب إلى آذاننا ضمن أحداث المسلسل إلا أن نسعد بما أضفاه تامر كروان لعظمة المشاهد من أداء موسيقي مبهر أضاف الكثير والكثير لأحداث العمل ليكون أحد أبطاله، ولكن على الصعيد الآخر وحين نتأمل تتر المسلسل لا نملك إلا أن نشعر أننا قد استمعنا إلى تلك الُجمل اللحنية من قبل! ولا يمر الكثير من الوقت حتى ندرك أنها نفس الجمل اللحنية تقريبًا لتتري مسلسل " ذات" و" سجن النسا" مع بعض الاختلافات المميزة لكل عمل عن الآخر ولكنها فى النهاية نفس الروح ونفس الجمل اللحنية التي لا تخطأها الأذن. عزيزى تامر كروان، موهبتك أكبر من ذلك فدعنا نراها فى إطارات أخرى حتى لا نشعر بالملل عند تكرار نفس الفكرة اللحنية للمرة الرابعة!
عند تأمل مسلسل "تحت السيطرة" جيدا لا تستطيع إلا أن تعجب بكادرات تامر محسن التى جاءت خادمة للمشهد وإحساسه تمامًا. كذلك الإضاءة والديكور لعبا دورا مهما فى الصورة التى خرجت بها الكثير من مشاهد العمل. حاولت أن أتغاضى عن تحليل مشاهد بعينها ولكنى لم أستطع إلا أن أتذكر مشهد "مريم" وهي تتحدث إلى ذلك الذي أراد الارتباط بها ولكن كـ"صاحبة" بعد علمه أنها مدمنة متعافية، فطريقة إخراج ذلك المشهد كانت أكثر من رائعة، فردة فعل مريم وارتباكها لما سمعت مع التداخل الموسيقي واختفاء صوت رفيقها بالتدريج ليصبح غير مسموع بالمرة مع رؤيتنا لتحريك شفتيه والموسيقى تعلو لتغطي عليه. كل ذلك جعل من هذا المشهد تحفة فنية عظيمة.
ولا نستطيع أن نذكر المشاهد التى لن تنسى، إلا وأن نرفع القبعة تحية لتامر محسن على التسلسل الدرامي لأخر مشاهد "هانيا وعلي" لينتهي مشهد اعتداء الأخير بتداخل موسيقي يعلو فى أخره صوت تراك لا تخطأه أذنك لتسبق ذاكرتك مشاهد المسلسل _كرد فعل مباشر ومتعمد من مخرجنا_ لتتذكر أخر مرة سمعت فيها أذنك هذا التراك ضمن أحداث العمل، حيث علاقة "علي وهانيا" وهي في مرحلة "الحفلة"، فيقابلك المخرج في منتصف الطريق ويعرض تلك المشاهد كفلاش باك متداخل مع مشهد "هانيا" وهي تغادر منزل "علي" باكية باحثةً عن أخر جرعة مخدر لها قبل أن تهدأ الموسيقى الصاخبة معلنة انتهاء مرحلة "الحفلة" من حياة "هانيا" بالتزامن مع محاولة تعاطي "هانيا" لأخر جرعة مخدرة والتي تصيبها بالشلل التام فى مشهد هو الأنضج والأجمل لجميلة عوض لتُبكي معها كل من شاهد الحلقة الأخيرة من "تحت سيطرة" ولتنهي سلسلة مشاهد متتابعة فى نظرى تستحق أوسكار أحسن تسلسل درامي!
وكما أراد تامر محسن أن يكون ختامها مسك، فإذا به يفاجئنا بإسناد دور "رؤوف" للمبهر دائما وأبدا " ماجد الكدواني"، أردت أنا أيضا أن أختم به حديثي عن أداء أبطال العمل. نعم، فى مشهد مدته تعدت التسع دقائق استحق ماجد الكدوانى وعن جدارة أن نعتبره أحد أبطال العمل، فإذا سألت أحد المارة بالشارع ممن شاهدوا هذا العمل عن أكثر ما أعجبه لابد وأن يذكر ذلك العبقري ذو الأداء السهل الممتنع إذ قدم مشهد لن يُمحى من ذاكرة أحد وسيكون ضمن قائمة أفضل مشاهد هذا العملاق. دائمًا ما أقع أسيرة كافة أدوار "ماجد الكدواني" ولكنني هذه المرة شعرت وأن "رؤوف" هو شخص أعرفه! ربما أحد أقاربي أو أصدقائي أو حتى زوج أو أب أو أخ!! نعم، جعلنى الكدواني أشعر بالشخصية إلى هذا الحد! مبهرُ هو ذلك الممثل الذى يجبرك أن تقف له مصفقا ودموعك تكلل وجهك من شدة بساطة وصدق أداءه فى آن واحد.. لهذه الدرجة توحد الكدوانى مع شخصية لن تظهر على الشاشة سوى تسع دقائق؟!
إذا كنت قد بدأت مقالي بشُكر تامر محسن ومريم نعوم على العمل، فلابد وأن أشكر ماجد الكدواني على حدة عن هذا المشهد الملحمي. شكرا ماجد الكدواني.
نعم، أعلم اننى لم أقم بذكر بطلة العمل، ولكن هل بعد ثلاثة أعمال ناجحة محققة أعلى نسبة مشاهدة وسط الأعمال الرمضانية، هل حقا تنتظر نيللي كريم تعليق على أداءها؟ إذا كانت لم تمل من سماع كلمات الإطراء والإعجاب فلتتقبل منا ذلك: أنتِ الجوكر الرمضاني بلا أدنى ذرة مبالغة!
عندما تقف أمام عملٍ كهذا، ستجد أن لا أحد في النهاية يتذكر ردود الفعل شديدة السطحية التي اعتبرت أن عرض ومعالجة قضايا بهذه الأهمية فى الدراما هو شيء "كئيب ونكدي" بل و"غير أخلاقي" في بعض اﻵحيان! فمنذ متى نحاسب الفن حين يحقق أخيرا دوره ويقدم رسالة حقيقية بوصفه بـغير اﻷخلاقي؟! كذلك لن يلتفت أحد لحججك الواهية التى تناسب مهاترات أحد برامج التوك شو الفاشلة فى أن المسلسل يُعّلم الناس كيفية تعاطي المخدرات وأن ذلك لا يجوز عرضه إذ أنه يعلم أولادنا كيفية التعاطي!.. أخشى ما أخشاه عزيزي الوالد، أنه ربما يكون ابنك أو ابنتك بالفعل يتعاطون المخدرات دون أن تدري فى الوقت الذى تكون أنت مشغول فيه بالاعتراض على عرض تلك المشاهد!! نعم، عندما يقف أحدهم أمام عمل كهذا لن يرى أي من هذا الهجوم غير المبرر ولكنه سيرى عمل قد توحد معه جمهوره لدرجة أنهم أشاعوا أن بعض أبطال العمل هم بالفعل مدمني مخدرات ولذلك قاموا بأداء الشخصيات بتلك المصداقية!!
وكما تعودنا بعد الانتهاء من مشاهدة أى عمل لمريم نعوم في الـ3 سنوات المنقضية، سماع الاتهام الآتى بضراوة: مريم نعوم تصدر لنا الكآبة وكره الرجال! لم أعقب على ذلك خلال العامين الماضيين ولكن هذه المرة مختلفة؛ فقبل أن نسارع بإطلاق وصف الكآبة، حاول عزيزي المفرط الحس أن تأخذ من وقتك خمس ثوان تفكير وتأمل لكل ما هو حولك لتكتشف أن مريم نعوم لم تنقل الواقع وإنما على العكس؛ فقد تكون نقلت نصف الحقيقة وربما قد جملت هذا النصف أيضًا. أما فيما يخص "كُره الرجال" فإذا أخذت من وقتك الثمين نفس الخمس ثوان السابق ذكرهم للتأمل والتفكير ولكن هذه المرة لكى تركز فعلا فى شخصياتها، ستجد أنها لا تتحامل على أحد، وليست كما تحكم عليها "مُعقدة" من جنس بعينه، وإنما حاول أن ترى أنها تسلط الضوء وتُبَروِّز سذاجة النساء وغباءهن فى اختياراتهن الخاطئة، وقتها فقط ستفهم أنها تصُب جم غضبها على بنات جنسها، بإظهار شخصيات مريضة من الجنس الآخر. وإذا لم تستطع رؤية تلك الإثباتات فاعلم عزيزي المتشبث برأيك أنها على سبيل التغيير، قامت نعوم بعقد هدنة غير معلنة بينها وبين عالم الرجال لتنهي علاقة مريم وحاتم بنفس الهدنة بينهما وتجعل من هشام الملاك الحارس لمايا، لتنهى بذلك أسطورة "مريم نعوم المضطهدة للرجال"!
تقييمى للعمل: 10\8.5
- شكرا لمن كانوا وراء الكاميرات وساهموا بشكل أو بآخر في خروج هذا العمل إلينا بهذا الشكل المشرف، فأنا أؤمن دائما أن هؤلاء هم الأبطال الحقيقيين للعمل، ومن دونهم لم يكن ليخرج العمل بهذا الكم من الإبهار.
-"تحت السيطرة" أضاف لي تعريفًا جديدًا للمسلسل الناجح: هو العمل الذي تشعر برغبة ملحة فى مشاهدة حلقته الأخيرة أكثر من مرة دون كلل أو ملل.
على الهامش، الإدمان مرض، كأي مرض مزمن.. لا يستحق مريضه أبدا التحقير أو الإيذاء بقدر ما يستحق أكبر قدر ممكن من أن تقرأ أنت وتعرف عنه أكثر لأن الجهل بهذا المرض هو سبب أساسي في انتشاره.
تحية أخيرة ، لكل مدمن متعافي يجاهد ويحاول التعايش مع من حوله لكي يحافظ على "تبطيله" ويسترد حقه فى حياة طبيعية لا يستحق أقل منها وخصوصًا بعد أن دفع ثمن اختياراته خسارات فادحة.
ودعاء أخير، لكل مدمن لديه رغبة في التعافى ولكنه لا يصدق أن "فيه تبطيل"، وكل مدمن قرر أن "يجرب" حظه مع "التبطيل": "اللهم امنحه السكينة ليتقبل الأشياء التي لا يستطيع تغييرها والشجاعة لتغيير الأشياء التي يستطيع تغييرها والحكمة لمعرفة الفرق بينهما". لأن أسوأ يوم "تبطيل" سيظل دائمًا أفضل من أحسن يوم "ضرب".