مع نظرة فاحصة على النظام الذي تسير به حيواتنا، قد نلاحظ وجود عدد من المتواليات المتكررة التي تسير عليها الحياة اليومية، وهو ما يؤدي إلى خلق شكل ما من الروتين. الأمر الذي يؤكد عليه بصريًا المخرج والكاتب الهندي ريتش باترا في أول أفلامه الروائية The Lunchbox الذي عرض ضمن أسبوع النقاد من خلال عدد من اللقطات المتتابعة في افتتاحية الفيلم والتي يبحث بها عن وجوه النزعة النظامية التي تتخذها الحياة اليومية لسكان هذه البقعة من الأرض.
لكن سرعان ما يأخذ باترا بأيدينا من هذه النظامية الصارمة نحو اللحظة التي تفلت بها إحدى تروس هذه المنظومة الحياتية الكبيرة من سريانها اليومي، ليمنح هذا الإفلات غير المقصود فرصة ذهبية لشخصان كانا يشعران طيلة الوقت بالوحدة من أجل البحث عن معنى لهذه الحياة الجافة ولم يكونا ليلتقيا لولا هذه الفرصة، حتى لو كان هذا من خلال وجبة الطعام التي يستقبلها ساجان فرنانديز ( عرفان خان) يوميًا بالخطأ من إيلا ( نيمرات كاور) التي تقوم بإرسال الطعام إلى زوجها لكنه لا يصله بسبب خطأ في طلبيات توصيل علب الغداء.
مع استمرار الفيلم في سيره، يبدو أن كل من ساجان وإيلا قد استغلا هذا الخطأ لصالحهما لكي يتقاربا أكثر فأكثر عبر سلسلة طويلة من الرسائل يقوما بتبادلها من خلال علبة الغداء التي تصله كل يوم إلى المكتب، وهو الأمر الذي يمنحهما متنفس غير مسبوق ليبوح كل منهما بحرية شديدة عمن يكونا بالفعل بعيدًا عن الأدوار التقليدية التي يمارسونها في المنظومة الحياتية التقليدية التي يعيشها كلاهما (وهى هنا العمل بالنسبة لساجان، والأسرة ورابطة الزواج والأمومة بالنسبة لإيلا) معبرين عن جوانب لم تكن واضحة بهذا القدر بسبب انغماس كلاهما في المنظومة.
وكان باترا موفقًا بأن لا يجنح بفيلمه نحو الميلودراما حتى مع سيطرة أسلوب (أدب الرسائل) على بنية الفيلم، حتى مع ما تفرضه الرسائل دومًا من بوح مستمر بما يدعو ذلك إلى استدعاء دائم لمشاغل وهموم من يكتب الرسالة، بل على العكس كان باترا لا يخاف من التعامل ببساطة وخفة مع الكثير من المواقف داخل الفيلم بدون أن يؤثر ذلك على طبيعته، مما منح للفيلم لمسة كوميدية متناغمة مع حالة الفيلم، خاصة في ظل وجود شخصيات مساندة موضوعة في محلها بدقة كشخصية جارة إيلا التي نسمع صوتها فقط طوال الفيلم ولا نراها، وشخصية شيخ ( ناوازودين سيديكيو) المتدرب الجديد في الشركة.
وعلى الرغم من توضيح المخرج لفكرته بصريًا طوال أحداث الفيلم، إلا أنه يختار كذلك أن يتكأ عليها لفظيًا بالرغم من امكانية الاكتفاء بالتأكيد البصري، يكفي أن نشاهد مشاهد الجموع البشرية الهادرة والقطارات السائرة لندرك المقصود، كما أن اختيار القطار كمجاز عن طبيعة مسارات الحياة قد تحول إلى خيار درامي متكرر ومستهلك بعض الشيء في العديد من الأفلام السابقة التي لجأت هى الأخرى لنفس المجاز.
كما توجد مشكلة مزعجة بعض الشيء إذا اخترت أن تركز عليها ولا تتجاهلها، وهى دافع الزوجة إيلا للبوح مع ساجان بسبب تعامل زوجها الجاف وغير العاطفي وحتى البراجماتي معها، فكان هذا الدافع بالنسبة لي أكثر من كافي لكل ما تقوم به إيلا مع ساجان، ولم يكن هناك داعِ من وجهة نظري لكي يتم إضافة قيامه بخيانتها أيضًا إلى قائمة الأسباب الدافعة لإيلا.
وبعيدًا عن هذه الملاحظات، فإن الفيلم ناجح جدًا في مخاطبة مشاعر مشاهده مباشرة، وأرى أن كل من حميميته الشديدة ولجوئه لأسلوب الرسائل وأداءات أبطاله الرئيسيين تعوض بشكل كبير عن أي منغصات بسيطة فيه يمكن اختيار غض الطرف عنها.
إعلان الفيلم
[/video/vd00006297/]