"أعطني إسبانيا وأؤكد لك أن يدي لن ترتعش، سوف تظل قوية"
فرانسيسكو فرانكو
فيلمان قادمان من شبه جزيرة أيبيريا، أحدهما يحمل عبق الأندلس بعد سقوطه منذ أكثر من خمسة قرون، والآخر يجلب معه رائحة الدماء التي خلفتها الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن المنصرم. حكايتان عن النساء من الماضي البعيد والماضي القريب، وذلك القهر الذي تعرضن له سواء كُن في السلطة أو في النضال ضد السلطة الاستبدادية.
الحكاية الأولى هي حكاية عن الحب والجنون والسلطة والغيرة والموت، حكاية من زمن آخر، قالوا لنا: العصور الوسطى التي خبت فيها سطوة الأوروبيين وعلا نجم العرب والمسلمين.
حكاية تبدأ مع نهايات الحكم العربي والإسلامي في هذه المنطقة المعروفة تاريخيــًا بــ"الأندلس"، لكنها لا تحكي قصتها، إنما تروي قصة السلطة في إسبانيا الوليدة على يد ملكتها الكاثولكية القوية إيزابيلا عقيلة فرناندو الثاني.
ملكة إسبانيا التي منحت كريستوفر كولومبس شارة الانطلاق لاكتشاف أرض جديدة. إيزابيلا التي قَضَت على آخر معاقل العرب والمسلمين في الأندلس عام 1492 بعد سقوط غرناطة. إيزابيلا التي قَضّت مضاجع المتبقين من الموريين أو العرب بمحاكم التفتيش. إيزابيلا التي أنجبت "خوانا" وريثة العرش بعد موتها.
خوانا المجنونة أو Juana La Loca بالإسبانية، فيلم إسباني إنتاج عام 2001 من إخراج Vicente Aranda. نجح المخرج أن يحكي لنا قصة الدولة الإسبانية التي تسعى لبناء التحالفات السياسية الأوروبية من خلال الزواج، فخوانا لم تكن الوحيدة من أنجال إيزابيلا التي ستتزوج أميرًا أوروبيــًا، فباقي أشقائها تزوجوا من أمراء في أنحاء متفرقة من القارة العجوز، ليصبح أبناء إيزابيلا وفرناندو من أقوى العائلات الأوروبية في القرن السادس عشر.
قرابة النصف قرن، جلست خوانا ملكة قشتالة قيد الحبس في قلعة "Tordesillas" بعد أن اتهمها والدها فرناندو بالجنون بسبب وفاة زوجها الملك الوسيم فيليب في الثامنة والعشرين من عمره؛ حتى يقتنص كرسي الحكم من يدها. بعد وفاة والدها وتتويج "كارلوس أو شارل الخامس" ابنها ملكــًا على إسبانيا، ظلت "خوانا" حبيسة جدران القلعة الكئيبة، تتذكر زوجها الحبيب فيليب رغم خياناته العديدة.
خوانا، المرأة التي خانها زوجها ووالدها وابنها، ناعتين إياها بالمجنونة، تحب فيليب حبــًا جمــًا، ربما ليس لأنه أفضل رجل التقته في حياتها، لكن لأنه كان أول من شعرت معه كونها أنثى. حاول الفيلم منذ البداية أن يوضح بُعد خوانا عن الدين المسيحي الكاثوليكي، على عكس والدتها إيزابيلا التي اتسمت بغيرتها الشديدة على المسيحية.
كثيرات هن الملكات في التاريخ الأوروبي الوسيط والحديث، حكاياتهن مفعمة بالدراما، مُترعة بالتشويق، فإذا كانت إيزابيلا اُتهمت بالجنون هي وابنتها خوانا، فــ"آن بولين" ملكة انجلترا وزوجة واحد من أشهر ملوك الإنجليز "هنري الثامن" قد ماتت شنقــًا في دهاليز برج لندن الشهير، و"كاثرين الكبرى" إمبراطورة روسيا التي أعادت أمجاد روسيا بعد بطرس الأكبر، ماتت ملقاة على الأرض داخل غرفة الاغتسال الخاصة بها.
خوانا صاحبة الستة عشر عامــًا، تزوجت من فيليب أرشيدوق "لوكسمبرج" وابن الأمبراطور الروماني "ماكسيميليان الأول"، أبرز الفيلم طوال الوقت أن خوانا ليست مجنونة على المستوى العقلي، لكنها إمرأة أحبت، فصار الجنون والغيرة هما الحاكم لعلاقتها بزوجها، فإن وصفوها مجنونة لا تأبه لأن حبها لزوجها يفوق الجنون.
فيليب الأمير المعتد بذاته، لا يحب خوانا، يحب نفسه أكثر، يسعى وراء شهواته، لا غرو أن يقيم علاقة مع وصيفات زوجته، ولا ضيم في أن يأتي بفتاة من العرب (الموريين) إلى القصر في هيئة مزيفة كي تلبي رغباته.
ربما لن يفهم من يشاهد الفيلم سبب جنون خوانا، سيأخذك الفيلم إلى أن الحب هو السبب، لأنه لم يركز على قضية الدين، والتحالفات المضادة لخوانا سواء من خلال الكنيسة أو والدها الذي لم يكن يراها أهلاً للحكم لأنها من الهراطقة.
فالفيلم ركز فقط على فكرة حبها لزوجها، وأنها لم تكن تخجل من إيضاح هذا أمام الجميع، مما أثار حفيظة الملك الذي كان يبدو أمام الجميع أكثر محافظة منها في حين أنه يخونها كثيرًا. ولعل هذا كان مقصودًا من فريق عمل الفيلم، فقراءة التاريخ توضح أن خوانا لم تكن مجنونة، فقد كان الصراع سياسيــًا بالأساس بينها وبين الكنيسة وبين والدها وزوجها المتعددة خياناته، وبالتالي لن يكون هناك ذريعة للتخلص منها سوى "الجنون".
الفيلم في مجمله نجح في الانتقال بنا إلى هذه الفترة التاريخية الدسمة بالأحداث، مثيرًا داخل مَنْ يشاهد الفيلم التعاطف مع الملكة التي كان الحب هو سبب إبعادها عن الحكم.
أما الحكاية الأخرى تأتي في عهد واحد من أشرس الحكام الأوروبيين في العصر الحديث، فرانسيسكو فرانكو أو El Caudillo، فكما أطلق هتلر على نفسه لقب الــ Der Führer و موسولويني لقب Il Duce، رأي الجنرال الإسباني في نفسه الزعامة كي يطلق على نفسه هذا اللقب الذي لا يختلف في معناه عن ألقاب رفاق الفاشية في أوروبا فمعناها الزعيم والقائد.
فيلم يتحدث عن الفترة التي تلت انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية التي وقعت بين عامي 1936 و1939.
في عام 1940 بعد أن نجح الجنرال فرانكو في الانتصار على جبهة الجمهوريين أو الديمقراطيين واقتناص السلطة، لم يكن الانتصار مكتملاً. فالجمهوريون رغم هزيمتهم خلال الحرب وعدم قدرتهم على الحفاظ على السلطة أو استعادتها مرة أخرى، لم ييأسوا وقاموا بالتعامل مع نظام فرانكو القومي بطريقة حروب العصابات.
La voz dormida أو The sleeping voice، إخراج Benito Zambrano عام 2011 ومستوحى من رواية للكاتبة Dulce Chacón، يجول بنا خلال ساعتين في عالم النساء الإسبانيات المناضلات ضد حكم فرانكو الاستبدادي، فيلم بديع وكاشف لعالم المرأة والسياسة.
قصة أختين، إحداهما شيوعية غير مؤمنة بالدين تناضل مع حركات اليسار المناهض للنظام الحاكم، والأخرى فتاة مسيحية كاثوليكية عادية. قَطَعت الحرب أوصال العلاقة بينهما، فالأخت المناضلة "هورتنسيا" تقضي عقوبة الانضمام لمنظمات تحاول إسقاط النظام في المعتقل وهي تحمل في أحشائها طفلاً من زوجها المناضل الهارب من قوات الجيش الذي يحكم البلاد بقبضة حديدية. أما الأخت الصغري "بيبيتا" تحاول أن تعمل في العاصمة مدريد بعد أن أتت من مدينتها "قرطبة" كي ترى أختها المسجونة.
الفيلم تعرض لكثير من الشخصيات النسائية، كثير من النساء السجينات في مراحل عمرية مختلفة، والسجانات اللاتي يبدو على وجوههن القسوة، والراهبات اللاتي يحاولن إثناء السجينات الشيوعيات عن كفرهن بالمسيحية الحقة، والمرأة التي تبكي مقتل أخويها على يد الحركات الشيوعية.
الفيلم اصطدم بمسألة الدين وكيف ترى النساء الشيوعيات في صراعهن مع الراهبات أن الدين لم يكن سوى قناع لتجميل صورة نظام فرانكو القمعي، فالراهبات اللاتي يرتدين زي العفة لا يختلفن كثيرًا عن الشيطان.
"يحيا فرانكو" هكذا هتفت السجينات وهن واقفات في صفوف متراصة، وأمامهن السجانة تقيم النظام، والراهبة تحذرهن من عدم الالتزام، فالعقاب سيكون قاسيــًا، سيُمنعن عن الزيارات لمدة شهر. الراهبة تحمل في يدها تمثال صغير للمسيح الطفل، وتطلب من كل سجينة تقبيل قدميه الصغيرتين حتى تشملها الرحمة السماوية، وتنقي روحها الملعونة من همهمات الشيوعية البغيضة.
بعض النساء تضعفن، تقبل واحدة تلو الأخرى قدم المسيح ثم يد الراهبة، إلا أن أحداهن ترفض ذلك وتقول للراهبة: القواعد لا تقول شيئــًا حول تقبيل الدمي، أنا غير مؤمنة، ولن أقبل قدم أي دمية!
تصفعها الراهبة على وجهها وتقول: كيف تجرؤين وتصفين المسيح بالدمية؟ سوف تقبلين قدمه لأنني أردتُ ذلك، أيتها الشيوعية اللعينة، أنتِ لا تستحقين الهواء الذي تتنفسين، سوف أعلمكِ معنى الاحترام. في هذه اللحظة يسقط المسيح الطفل، وينكسر، فتصاب الراهبة بالذعر، وتلطم المرأة على وجهها مرة ثانية ثم تضربها بهراوة السجانة بقسوة شديدة قائلة لها: عاهرة شيوعية، سوف تخلدين في الجحيم إلى الأبد مع مَنْ بقي من أمثالك، ثم تتوجه لباقي السجينات: جميعكن ملعونات، لا خلاص لأي منكن، لن يسود السلام في هذه الدولة ولن يسامحنا الله حتى يقبع كل الشيوعيين في السجون أو يلقوا حتفهم.
هذه الصورة الملائكية لسيدة ترتدي زيــًا مسيحيــًا محافظــًا تتحول في هذا المشهد البديع إلى صورة شيطانية بامتياز، تحفظ بين يديها صك الغفران والخلاص من الجحيم لمن يطيع أوامرها، إلا أنها رغم قوتها الظاهرية لم تستطع أن تصمد أمام قوة المرأة المناضلة التي رفضت تقبيل الدُمية.
هورتنسيا الحامل، تضع طفلة داخل المعتقل، وفي هذه اللحظة تظهر صورة أخرى لإحدى السجانات، لها قلب رقيق مثل أي إمرأة حبتها الطبيعة فطرة سليمة، تحاول السجانة أن تساعد هورتنيسا من أجل إخراج الطفلة من المعتقل وتوصيلها إلى أختها "بيبيتا".
في يوم تنفيذ حكم الإعدام ضد هورتنسيا يدور حوار بين هذه السجانة وسجانة أخرى حول الطفلة الرضيعة التي تبكي لأنها جائعة، فتقول السجانة لزميلتها الرقيقة القلب لو أن الله حباها طفلة كهذه لن تقحمها في غمار السياسة، فالشيوعيون لا يحبون أطفالهم كما نحب نحن، فترد الأخرى عليها: بالطبع لا، فهي تحب ابنتها، فتقول الأخرى: كيف هذا وهي لم تقم بتعميدها من قِبل الراهبات، ولم تذرف دمعة واحدة عليها، فتقول السجانة الرقيقة: هناك أكثر من طريقة الحزن والبكاء، هذه طفلة بريئة لا ذنب لها فيما يحدث، علينا أن ندخلها لأمها كي ترضعها. يدور هذا الصراع بين السيدتين حتى تدخل الطفلة لأمها فترضعها.
حاول المخرج أن يبين أن هؤلاء السيدات لسن جميعــًا قاسيات فمنهن من أصبحت سجانة رغمــًا عنها لأنها لم تجد عملاً آخر سواه، فقد كانت تعمل السجانة الرقيقة مُعلمة في إحدى المدارس قبل اندلاع الحرب الأهلية.
تلقى هورنتسيا حتفها تحت أضواء القمر وإلي جانبها العشرات، وتولد ابنتها يتيمة لا حاضن لها سوى خالتها "بيبتا" التي عاشت عشرين عامــًا في انتظار حبيبها السجين في زنازين فرانكو. هذا الفيلم استطاع تمامــًا أن يحرك مشاعرك تجاه هؤلاء السيدات اللاتي لم يخضعن لنظام مستبد حكم إسبانيا لقرابة الأربعة عقود حتى وفاة فرانكو عام 1975.
تبقى أفلام السيرة الذاتية المتقاطعة مع الأحداث التاريخية مثيرة دومــًا، إذ تتماس فيها الحقائق التاريخية مع خيال المؤلف والمخرج، وتزداد إثارة الفيلم عندما ينجح المخرج في نسج خيوط الحكاية التي تؤجج حيرتك فلا تعلم ما هو الخط الرفيع الفاصل بين الحقيقة والخيال؟