أتذكرُ جيدًا - عندما كُنا صغارًا في قلب الفصل الدراسي داخل مدرستنا الحكومية - صوت مُعلمة الموسيقى وهي تزعق فينا، في مُحاولة يائسة منها أن تُعلّمَنا السُلم الموسيقي، لكن هيهات، لم يفلحْ أيُ منا وفقما أتذكر في تعلم أي شيء له علاقة بالموسيقى.
بل كانت حصة الموسيقى من الأوقات التي نرغب تبديلها أو الاستمتاع بها في فناء المدرسة، ولعب الكرة التي لم تكن حتى متاحة طوال الوقت.
كان المُدرسون يرون التربية دومــًا قبل التعليم، وكأننا جئنا من عوالم أخرى، مرحلة ما قبل التاريخ، حتى ننال التربية أولاً ثم التعليم.
لم تُدرك مُدرسة الموسيقى في فصلنا أن تَعَلُمَ الموسيقى يجب أن يأتي بحبها أولاً، وليس بكتابة السُلم الموسيقي دون احساس.
خرجتُ من كل مراحل التعليم مُحبًا لسماع الموسيقى مثل أي بشر، لكنني لم أفقه شيئــًا في دروب هذا العلم، ولا أذكر أثناء الدراسة أنني حملت في يدي ذات مرة أي آلة موسيقية على سبيل التعرف أو التجربة.
حكايتنا اليوم هي قصة خلابة عن التعليم والموسيقى في الولايات المتحدة الأمريكية. حكاية تتضافر خيوطها طوال ثلاثة عقود حول مُدرس الموسيقى "جلين هولاند"، الذي أُضطر أن يقبل وظيفة التدريس في إحدى المدارس حتى يوفر حياة أفضل له وزوجته.
هولاند لا يرى أنه يستطيع أن يكون مُدرســًا جيدًا، ربما لأنه يكره التدريس، لكنه يعشق الموسيقى. كانت خُطتُه أن يعمل في هذه المدرسة لمدة أربع سنوات، ثم يتفرغ لعمله الشخصي وإنجاز سيمفونيته التي ستفتح له أبواب الشهرة.
Mr. Holland's Opus، دراما تسعينية ساحرة بطلها الممثل الفذ ريتشارد دريفوس والذي رُشح عن قيامه بهذا الدور للأوسكار كأحسن ممثل. العمل من إنتاج عام 1995 وإخراج ستيفن هيرك.
يحكي الفيلم قصة الولايات المتحدة الأمريكية بعد اغتيال جون كينيدي، مرورًا بحرب فيتنام، وفضيحة ووتر جيت، حتى منتصف التسعينات. يتقاطع هذا الخط السياسي مع الخط الموسيقي خلال هذه الفترة الزمنية، ويحاول الاقتراب من رؤية كل جيل للموسيقى التي تروق له، فجيل الستينات مثلًا كان يرى أن موسيقى الروك آند رول هي الأكثر ملائمة له، في حين أن جيل الأباء كان يري أن هذه الموسيقى قد أتى بها الشيطان. كما تطرق الفيلم لعالم جون لينون الذي صار رمزًا لجيل بأكمله بأغانيه الثورية الداعية للسلام ونبذ الحرب؟!
الفيلم يعالج أكثر من خط درامي، فمثلاً تطرق إلى المأساة التي خلفتها حرب فيتنام عندما ترى الأسر الأمريكية أبناءها عائدين في توابيت الموت بسبب قرارات سياسية. كذلك تعامل الفيلم مع واقع التربية والتعليم في الولايات المتحدة، وذهب لعالم الصُم والُبكم وعلاقتهم بتذوق الموسيقى تحديدًا.
شخصية السيد هولاند غير المحترفة في عالم التعليم في البداية، تصطدم أحيانــًا مع القواعد التي تتسم بالجمود في المدارس، فالموسيقى ليست هي الأولوية الكبرى لدى مديرة المدرسة أو نائبها، المهم هو الدرجات التي تُحصَد في المواد الرئيسة، وإذا كانت الموسيقى تخدم هذا الهدف فلا غرو من استخدامها.
أثار الفيلم جدلية التعليم التي ما زالت قائمة حتى اليوم، هل التعليم هو المعرفة أم التنوير أم التوجيه؟ هل اكتساب المعلومات هو هدف التعليم؟ أم هو الطريق ومنهجية التفكير؟ أم فتح آفاق وعوالم أخرى للعقل والروح؟
هولاند الأب، يحب ابنه وزوجته، لكنه بمرور الوقت ينغمس بشكل كبير مع تلاميذه في المدرسة، ربما وجد ضالته معهم، ربما لأنه لم ينجز سيمفونيته وجد في التلاميذ الحلم المنشود. ربما خاب أمله في ابنه بعدما أصيب في حادث جعله أصمـًا أبكم، وقد ظن أن ابنه سيصبح موسيقيــًا عندما يكبر إلا أن القدر حال دون ذلك.
تزداد الفجوة بمرور الوقت بين الأب من ناحية، و الزوجة والابن من ناحية أخرى. فالأم تصير أكثر انشغالاً بحالة ابنها فتبذل كل ما في وسعها من أجله، فتتعلم لغة الإشارة، في حين أن الأب لا يبذل المجهود المطلوب فلا يتعلم لغة الإشارة بإجادة من أجل التعامل مع ولده.
أما الابن فلا يرى الموسيقى من أولوياته، ربما يرى الأب كذلك، فالولد يرغب في أن يصبح رائد فضاء في مراهقته، ثم تؤول به الأقدار إلى أن يعمل في ميكانيكا السيارات. الأب كان يريد أن يرى في ابنه ما لم يستطع تحقيقه، ربما!
هولاند المُحب، ربما كانت زيادة الفجوة بينه وبين زوجته سببــًا في أن يمر بلحظة يظن فيها أنه قد ينخرط مع إحدى تلميذاته في علاقة عاطفية، ربما لأنها رأت فيه مُعلمــًا مُلهمــًا، وموسيقيــًا بارعــًا. عاطفة لم يشعر بها من زوجته المنشغلة مع طفله الذي يكبر يومــًا تلو الآخر. لكنه يعود لرشده فيعيد ذلك الرباط مجددًا بينه وبين زوجته وابنه.
الفيلم كان رائعــًا على مستوى الموسيقى، فقد تلاعب بآذاننا طيلة الساعتين أو ما يزيد، وتنقل بنا ما بين موسيقى باخ، وبيتهوفن، ثم جال بنا في عالم أحد الموسيقيين الأمريكيين العظماء "جورج جيرشوين George Gershwin" وأبرز واحدة من أعماله الشهيرة وهي أغنية "I got rhythm"، ثم أدخلنا في عالم جون لينون، وقد وضح تأثر فريق العمل بأعمال لينون فقد قدموا له أكثر من أغنية من أعماله الخالدة خلال الفيلم مثل أغنية Imagine وBeautiful Boy وتحدثوا عن لحظة اغتياله التي مثلت حدثــًا صادمــًا لمحبيه حول العالم.
يصل بنا الفيلم في نهايته إلى أن عمل هولاند لمدة ثلاثين عامــًا كمُعلم للموسيقى، ربما لم تكن منتهى أمله، إلا أنه أعطى التدريس كل طاقته وأفكاره وحبه، فخرج من بين يديه أجيالاً لم تنس له أن ارتقى بحسهم الموسيقي، فسيمفونيته الأعظم كانت من خلال هذه الأجيال المتعاقبة.
بعد أن انتهيتُ من مُشاهدة الفيلم، تذكرتُ مُدرسي المُوسيقى الذين مروا علينا في دراستنا، ومُدراء المدارس التي تعلمنا فيها، وكيف كانت رؤيتهم حول الموسيقى أنها "رفاهية"، والمهم هو مجموع الدرجات في المواد الأساسية، فلو كنتَ موهوبــًا في عزف آلة موسيقية، فهذه كماليات غير واردة في الحسبان بجانب العلوم التطبيقية أو الاجتماعية!