منذ استلام الممثل الإنجليزي دانيال كريج لشعلة البطولة لسلسلة أفلام الجاسوسية الأعلى جماهيرية على الإطلاق "جيمس بوند" من بطلها السابق الممثل الأيرلندي/الأمريكي بيرس بروسنان، ستصادف مئات التحليلات النقدية التي تتناول الدماء الجديدة التي باتت تتمتع بها السلسلة في أفلامها الأخيرة منذ فيلم Casino Royale في عام 2006، والتي تتحدث عن المحاولات الجادة لخلق روابط وثيقة بين المهام التي يشارك بها جيمس بوند وبين شخصيته وماضيه التي قلما تم التطرق لها في سائر الأفلام السابقة في السلسلة، ومحاولة النفاذ إلى نفسية جيمس بوند، ناهيك عن اختيار كريج نفسه والذي يعده الكثيرون من مريدي السلسلة من أفضل ممثليها منذ شون كونري.
حسنًا، كل ما قيل في الفقرة السابقة عن الروح الجديدة للسلسلة قد يكون به بعض الصحة لكن ليس كل الصحة، وينطبق بالفعل على بضعة عناصر في الأفلام الأخيرة مثل فيلم Skyfall الذي يعد محاولة جيدة في بعض مناحيه لتقديم نظرة مختلفة عن عالم العميل جيمس بوند عن طريق منحها دفقة درامية أعلى، لكنها في المقابل تظل فقط محاولة جيدة وليست فائقة الجودة.
لكن يبدو أن كل ما أثار إعجاب متابعي السلسلة في أفلامها الأخيرة قد تحول إلى سراب يتبخر عند الاقتراب في أحدث أفلام بوند Spectre الذي كان تجربة بالغة السوء لا تقدر على الاقتراب من الفيلم السابق بمقدار إصبع، حتى مع استعانة منتجو الفيلم بنفس المخرج سام ميندز وبنفس كتاب السيناريو جون لوجان و نيل بورفز و روبرت ويد كمحاولة تكرار النجاح النقدي الذي حازه Skyfall.
ولسوء حظ Spectre أن الجزء الخامس من سلسلة Mission: Impossible قد سبق عرض فيلمنا محل التناول ببضعة أشهر، مما يغري بشدة بالمقارنة بين ما جرى في كلا الفيلمين، خاصة مع وجود بضعة نقاط تشابه بينهما، فعلى سبيل المثال: في الفيلم الأول هناك خطر خفي يهدد الوكالة والإدارة التي يتبعها جيمس بوند بدمج الأولى وحل الثانية لصالح مؤسسة أمنية أكبر تحكم سيطرتها شيئًا فشيئًا على كل مقدرات الأمور بها، وذلك لكي لا يقتصر الخطر على بوند وحده، وفي الفيلم الثاني الذي سبقه يحدث خطر مشابه لوحدة المهمات المستحيلة التي يتبع إليها العميل إيثان هانت مما يهددها بالحل فيصير إيثان وحيدًا في مواجهة المنظمة الأخرى التي تحاول فرض سيطرتها.
إن هذه الحيلة الدرامية قد تدفعنا في حالة أخرى غير هذه إلى الاهتمام بالبطل أكثر الذي يتوجب عليه الآن مواجهة كل شيء بمفرده بدون أي مساندة سوى من الزملاء المخلصين والمشاركين بجهودهم الذاتية، لكن من فرط استنساخ هذه الفكرة من فيلم لآخر فقد تحولت هذه الحيلة إلى شيء مستهلك ومعلب جدًا.
ناهيك بالطبع عن اختيار المغرب لتكون محطة درامية في كلا الفيلمين، وعلى الرغم من كونه اختيار مفهوم نظرًا للجاذبية الشديدة التي تتمتع بها المغرب بالإضافة إلى الكم الهائل من التسهيلات والخدمات المغرية التي تقدمها الدولة لصناعة السينما، إلا أن تكرار اللجوء إليه دراميًا في فيلمان ينتميان لنفس النوع يجعل اﻷمر غير مريحًا.
إن ثقافة الحلول الدرامية السهلة تنتشر كالوباء في هذا الفيلم الذي كان يسعى لأن يكون امتدادًا لعملية تجديد الدماء التي جرت في أفلام بوند السابقة، بل إن الاستسهال يمتد لأحداث مفصلية تقوم عليها ركائز الفيلم وليس على تفاصيل هامشية، هل تتصوروا أن بوند الذي قتل للتو ماركو سيكارا بتكليف من السيدة إم قد قابل زوجة القتيل لاحقًا وعرفت أنه هو قاتل زوجها، ورغم كل ذلك استطاع أن يحصل منها على كل المعلومات عن لقاء المنظمة التي يحاول الوصول إليها فقط ببضعة قُبل ساخنة وبقوة الإغواء التي يملكها ولا تستطيع أنثى أن تقاومها في واحد من اسوأ مشاهد الفيلم واسوأ المرات التي ظهرت فيها مونيكا بيلوتشي سينمائيًا.
هناك مصيبة درامية لا تغتفر ولا أعرف حتى الآن كيف لم يخطر على بال أحد كتاب السيناريو أو المخرج أن يتداركها: عندما ذهب جيمس بوند لزيارة وايت في منزله النائي بين الجبال، ووجد في منزله كاميرات مراقبة تقوم بتسجيل كل شاردة وواردة تجرى في المنزل، وكل ما قام به بوند هو الابتسام فقط عند رؤية كاميرا المراقبة، والسؤال المنطقي الذي سيسأله أي عاقل، لماذا لم يفكر جيمس بوند في محو كل الأدلة الدالة على وجوده في المنزل بعد انتحار وايت من الكاميرات، هل ترك كتاب السيناريو هذه التفصيلة هكذا فقط لكي يبنوا عليها لاحقًا مطاردة طويلة بين بوند وبين خاطفي مادلين سوان " ليا سيدوكس" في النصف الثاني من الفيلم بعد أن عثر الخاطفين على شرائط المراقبة، ولكي يبني عليها تتابعًا دراميًا آخر خلال لقائه مع أوبرهاوزر " كريستوف فالتز".
ثم لماذا يتم التأكيد على الظهور المبهر للشخصية الشريرة في الفيلم وتكرار اﻷمر بهذه الصورة الفجة، فعلى الرغم من الحضور العظيم لكريستوف فالتز دومًا وقدرته غير العادية على سرقة الكاميرا، إلا أن طريقة تقديمه في سياق الفيلم صارت بلا معني من فرط الإصرار على وضع مئات الخطوط أسفلها بأن يظهر للمرة الأولى بوجه مظلم لا نرى منه شيئًا سوى عندما يدير وجهه لجيمس بوند، ثم يظهر للمرة الثانية من قلب الظلام إلى النور تدريجيًا لكي يشرح قصة الحجر النيزكي في مشهد يحمل نفس نكهة الظهور الأول لـ خافيير بارديم في Skyfall لكن ليس بنفس جودته.
أما بالنسبة للفتاة الجميلة مادلين سوان، فيبدو أن الوسيلة الوحيدة التي يراها كتاب السيناريو لأجل زيادة الاهتمام بها هو بتعريضها طوال الوقت للخطر، فقط لكي ينقذها جيمس بوند في اللحظة اﻷخيرة ويثبت في كل مرة أنه رجلها الهمام، حتى قصتها مع والدها تمر على نحو عابر وسرعان ما تٌنسى.
وبعد كل هذا، من الواضح أن كل محاولات الوصل بين ماضي وحاضر شخصية جيمس بوند من خلال تذكيرنا بكل من تعامل معهم في الأفلام السابقة الثلاثة هو "تحصيل حاصل"، وليس شيئًا يعزز نظرتنا له أو يدفعنا للنظر إليه نظرة أبعد من مجرد نظرتنا له كعميل مخابرات لا يشق له غبار، فاﻷمر لا يعدو مجرد إدعاء بإضفاء شيء من "العمق" على بوند.
Spectre لا يختلف في أي شيء عن نظرتنا الكلاسيكية عن أفلام بوند: عميل استخباراتي يملك قدرًا غير عادي من القوة وسعة الحيلة، ويحيط به عدد هائل من الجميلات الفاتنات، ويواجه أعتى اﻷشرار على وجه الأرض، ويدخل في سلسلة طويلة من المطاردات. هذا كل شيء حرفيًا، فإذا كنت تتوقع أن يكون شيئًا مختلفًا، فسوف تكتشف خطؤك مع إظلام القاعة وبدء عرض الفيلم.