من ضمن اﻷفلام التي تم استقدامها من مشاركات مهرجان كان السينمائي الدولي، تم عرض الفيلم الفرنسي الفائز بجائزة السعفة الذهبية لهذا العام Dheepan للمخرج الفرنسي جاك أوديار في عرض خاص ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
بعد النجاح الكبير الذي لاقاه أوديار مع فيلمه الشهير A Prophet بصحبة الممثل الفرنسي ذو اﻷصول الجزائرية طاهر رحيم، يعود أوديار مجددًا هنا ليقدم عالم المهاجرين المهمشين في فرنسا من جديد، ولكن بدلًا من التعامل مع العرب والمسلمين كمثل الفيلم السابق، يتعامل اوديار هذه المرة مع ثلاث مهاجرين من سيريلانكا هاربين من جحيم الحرب اﻷهلية التي دارت بين القوات الحكومية وبين حركة نمور التاميل الشهيرة.
من مزايا الفيلم أنه لا يستهلك الكثير من وقته في تمهيد القصة للمشاهدين، وأوديار في اﻷساس لا يجعلنا في حاجة إلى ذلك ﻷنه يقول لنا كل شيء في أول مشهدين: جندي يقوم مع رفقائه بحرق مجموعة من الجثث، ثم يقوم في المشهد التالي مباشرة بحرق ملابسه العسكرية وارتداء ملابس مدنية، ثم يقفز مباشرة إلى امرأة تبحث عن طفلة ليس لها عائلة لكي تسهل إجراءات اللجوء إلى دولة أوروبية مع الجندي الفار، ثم يركب الثلاثة معًا في مركب.
كل ما سبق يتم سرده في ما لا يزيد عن خمس دقائق، ﻷن هدف أوديار ليس الحديث عن الخلفيات السابقة لشخصياته الثلاث، بل تأثير هذه الخلفيات على حياتهم الجديدة في فرنسا، كيف سيتكيفون مع واقعهم الجديد؟ وهل سينجحون في ذلك؟ وهل ستزيد الغربة من التحامهم معًا لكي يكونوا أسرة واحدة بالفعل وليس على الورق فقط، أم ان الغربة ستزيدهم افتراقًا وينعزل كل منهم في عالمه الخاص؟ واﻷهم كيف سينجحون في التفاعل مع سائر السكان الفرنسيين؟
ما يروقني في الفيلم لعب أوديار على الثنائية المركبة التي يصير الأبطال الثلاثة فيها بين وضعهم الصوري كعائلة واحدة وبين وضعهم الفعلي كغرباء تجمعهم المصلحة المشتركة في البقاء، فهو يؤكد على تلك الثنائية من خلال الكثير من تفاصيل حياتهم اليومية التي أدت لاقترابهم التدريجي، لاحظ طريقة تعامل ديبان ويايلني مع الطفلة إيلال، إنهما يتعاملان معها بنفس التصرفات المعتادة التي يقوم بها الآباء، لكنها هنا ليست من منطلق أبوي على الإطلاق، بل من منطلق الإحساس بالمسئولية، وهو منطلق أكثر تجريدًا من المنطلق الأبوي، وكنت أتمنى تعزيز هذه العلاقة أكثر لأنها تراجعت دراميًا في النصف الثاني من الفيلم.
الأمر نفسه ينسحب على كيفية تطور علاقة ديبان ويايلني، إن الحياة الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها قد أجبرتهم عن غير إرادتهم على تشارك كل شيء يقومان به في المنزل: وجبات الطعام، العمل، الأحاديث العابرة. ديبان لم يعد ينظر إليها كرفيقة الغربة فقط، بل صارت هذه النظرة مع التعامل اليومي بالغة التركيب تجمع بين الاشتهاء الجنسي والحاجة للتعويض عن فقدان العائلة في الحرب والرغبة في سد الفراغ الإنساني والعاطفي، لقد صار وجودها في حياته يعني له أكثر مما ذي قبل، ومجرد فكرة غيابها صارت شيئًا معذبًا له واحتمال غير وارد أصلًا، وهو السبب الذي قد يدفعه للتعامل بحدة شديدة معها.
هذه العلاقة المعقدة تقع أمام اختبار بالغ الصعوبة يرتكز على تيمة مفضلة لدي جاك أوديار، وهى "الصراع بين أن تكون ذئبًا أو أن تكون حملًا"، نفس التيمة التي حركت مالك للصعود المضطرد داخل عالم السجن الشرس في فيلم A Prophet هى نفسها التي تحرك ديبان للتعامل مع مجموعة من الخارجين من القانون الذين يستوطنون الحي الذي يعيش فيه ديبان ويايلني وإيلال. إن محرك ديبان لمواجهتهم ليس شعوره بالخطر منهم، فقد رأى بالطبع ما هو اسوأ في الحرب، ولكن لكي تطمئن يايليني على نفسها وحياتها معه وأن تظل إلى جواره ولا تتركه ولكي يثبت لها على نحو حاسم أنه أكثر من مجرد رجل يشاركها السكن.
لا تزداد حدة هذا الصراع فقط بسبب كون ديبان مهاجرًا وهم من مواطني فرنسا، بل لأنهم أيضًا يملكون من العدد والعتاد ما يساعدهم على فرض سيطرتهم، لذا يصير السلاح الأقوى لديبان في هذه المواجهة هو سعة الحيلة وحسن التصرف، وهو الأمر الذي يبرر التتابع الأخير الذي قد يختلف معه الكثيرون، لكني أراه متسقًا مع عقلية ديبان وجودة تخطيطه بناء على خبراته المؤلمة في الماضي القريب.