ربما ما يدخل في حكم (المفروغ منه) أن أكثر ما جذب كل هذا الجمهور الهائل للاصطفاف أمام المسرح الكبير بدار اﻷوبرا المصرية مساء أمس لمشاهدة فيلم " من ضهر راجل" المشارك في المسابقة الرسمية لـ مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ليس لكون الفيلم من إنتاج أحمد السبكي، ولا ﻷنه من بطولة نجم محبوب مثل آسر ياسين، ولكن ﻷن الفيلم من تأليف محمد أمين راضي، السيناريست الذي بات نجمًا في زمن وجيز، وفي وسط لا يصير فيه أي كاتب سيناريو على نفس قدر شهرة وجماهيرية الممثلين بهذه السهولة.
يعود الفضل في المقام الأول في ما وصل إليه محمد أمين راضي هو عدم خضوعه للمعادلات الفنية المتداولة في سوق الفن، بل ما حدث هو العكس، فقد صنع الرجل بثلاث مسلسلات فقط معادلته الفنية الخاصة واستطاع أن يقنع بها المنتجون والفنانون، ومن بعدهم المشاهدون في المنازل، وإن كنت لا أزال أختلف جدًا مع أمين راضي في طريقة صياغته لغالبية الحلول الدرامية ضمن مسلسلاته الثلاث بالرغم من أفكارها الجيدة وإمكانياتها الدرامية الهائلة وانطلاقاتها المبشرة، فقد كنت مثلًا من أشد معجبي مسلسل " السبع وصايا" في نصفه الأول على حساب مسلسل " نيران صديقة"، لكن في نصفه الثاني لم ترقني الكثير من الخيارات الدرامية التي حاول بها أن ينهي ما بدأه.
حسنًا، السينما يختلف حالها تمامًا عن الدراما التليفزيونية، كل منهما له حسابات فنية مختلفة تمامًا، ففي السينما سيكون لدى أي كاتب سيناريو قدرة أكبر على التحكم بنصه المكتوب وطريقة توجيهه وعلى انتقاء وضبط الخيارات الدرامية بشكل أدق، ﻷنه لن يكون مشغولًا حتى أذنيه بملأ ثلاثون حلقة مع الحفاظ على نفس الدرجة من النجاح في جذب المشاهدين للاستمرار في المشاهدة.
كان إحساسي طوال الساعتين والنصف - مدة عرض الفيلم - بأن الفيلم في حد ذاته عبارة عن مباراة يخوضها أمين راضي مع مشاهده، إنه شيء يشبه إحساس بطل فيلمه أثناء النزال في حلبة الملاكمة. أمين راضي لا تنفذ ذخيرته من الحيل الدرامية طوال الوقت التي تكفل باستمرار المتابعة حتى مع طول مدة الفيلم، ما أن يمر منعطف درامي حتى يباغتك بمنعطف آخر، وما أن تدرك هذا المنعطف حتى يفاجئك بمنعطف ثالث، وهكذا يسير بك حتى النهاية.
لا يعول أمين راضي كثيرًا في نصه على خلق التعاطف مع شخوص الفيلم، أو حتى إلى اتخاذ مواقف منهم، لكنه يركن بشكل مكثف نحو الناحية الحرفية من الكتابة، فهدفه وشاغله في المقام الأول هو تعاطي المشاهد مع المنحنيات العديدة التي يتخذها السيناريو طوال الوقت، وقد يكون هذا عيبًا في أفلام أخرى كثيرة - أي الاهتمام باﻷحداث على حساب الشخصيات - لكنها في هذا السياق لا تمثل مشكلة فنية، وذلك بفضل ركون أمين راضي الذكي إلى الكثير من التيمات الكلاسيكية التي يضربها في الخلاط معًا ليقدم هذا الكوكتيل الدرامي.
لا يلقي أمين راضي ثقل الحبكة بأكمله على تيمة واحدة فقط، بل يقوم بالمزج بينها، وقد تتبادل بعضها اﻷدوار فيما بينها خلال اﻷحداث، فبينما يعمل جزء كبير من الحبكة على تيمة (الصراع على اﻷنثى) التي تدور بين رحيم وطه، لكنه يجعل الطرف الثاني - وهو طه - غير ظاهر للعيان، ولا يحول الصراع إلى مراشقة حنجورية تقليدية مثلما شاهدنا في العديد من الأفلام المصرية، بل يقوم بالتكتيك لها على مهل، ومن وراء الستار، كما يمزجها بتيمات (التحول السلبي) و(التعصب للروابط اﻷسرية) و(العلاقة مع السلطة) و(الانتقام).
وعلى الرغم من احتلال رياضة الملاكمة لشطر كبير من دراما الفيلم ومن تكوين شخصية رحيم التي تؤهله لفترة التحول التي يمر بها خلال تعاونه مع حِنش ( وليد فواز)، إلا أنه لا يحوله لفيلم رياضي، ولا يجعلها طاغية على بقية التيمات الكلاسيكية الدرامية اﻷخرى حتى لا يسحبنا بعيدًا عن الصراعات الأساسية التي يخوضها رحيم على كل الجبهات، وحتى لا يسلب من اﻷحداث تدفقها.
لكن فيلم بكل هذا الزخم الدرامي الذي يحتويه كان في حاجة ماسة لمخرج آخر أكثر نضجًا وأكثر تفهمًا لطبيعته المقبضة غير كريم السبكي، شعرت أن أسلوبه اﻹخراجي يشوبه حس طفولي للغاية خاصة في طريقة التعامل مع الكاميرا التي كان يميل بها للاستعراض البصري المبهرج أكثر من مواكبة حالة السيناريو المزاجية، مثل أن يدور بالكاميرا مع دوران السلم، أو يقلب الصورة رأسًا عن عقب، أو أن يستخدم التصوير البطيء بمناسبة وبدون مناسبة كعادة السينما المصرية دومًا.
ربما تبدو المشكلة اﻹخراجية أكثر جلاء في توجيه الممثلين، هناك إحساس واضح بالتفاوت في درجات الحضور الأدائي لكل ممثل، شعرت في بعض الأوقات بعدم وجود مواكبة بين أداءاتهم حتى مع تميز أغلبها بالطبع، وأن كل ممثل قد اعتمد في اﻷساس على قدراته الخاصة بمفرده بدون مساعدة كبيرة من المخرج، كما كان عليه أن يبذل مجهودًا أكبر بإحداث فرق في التوجيه، خاصة أن بعض الممثلين قد أدوا شخصيات مماثلة كالتي قدموها في الفيلم في أعمال سابقة، فرغم إعجابي بـ"الفوازين" وليد و صبري - على سبيل المثال -، إلا أنني كنت أحتاج لما هو أكثر لكي أشعر بشيء من الاختلاف منهما في هذا المنحى.
يثبت محمد أمين راضي في أول عمل سينمائي له، وبعيدًا عن المقارنة بأعماله التليفزيونية، أنه يملك ما هو أكثر من مجرد معادلة فنية خاصةً إذا تم تحريكها في الاتجاه الصحيح، وأنه ناجح للغاية في "جر رجل" مشاهده عندما يتمكن من ناصية حكايته، وربما لو تعاون في هذا الفيلم مع مخرج آخر كانت ستكون المحصلة النهائية أعلى، وربما كنت سأمنحه تقييمًا أعلى.