الحياة تصبح غير محتملة عندما تتحول الأيام لقوالب تشبه بعضها. لا يتغير فيها شيئًا سوى بعض الأفعال اليومية التي نمارسها كلعبة التباديل؛ كي يصبح لهذه الأيام طعمــًا أقل قسوة.
الزواج يراه البعض أمرًا سهلًا، عملًا روتينيًا، مُعادلة محسوبة الأطراف. فإذا التقيتَ الشخص المناسب، وامتلكت القُدرات المادية، ولدى كلِ منكما قَبول للآخر، تستطيعان الزواج. في حين يراه البعض عملاً شاقــًا، لوغاريتم إنساني. فقد تلتقي شخصــًا مناسبــًا وتمتلكُ المال، وتتزوج، لكنك لا تستطيع الحياة مع هذا شخص تحت سقف واحد.
ما بين هذين الحدين، نُشاهد الفيلم البريطاني 45years الذي يحكي قصة رجل "جيف ميرسر" وزوجته "كايت"، على بُعد أيام قليلة من الاحتفال بعيد زواجهما الخامس والأربعين. أولُ ما يُلفتُ نظرك في السيناريو، أنه تعامل مع حدث الاحتفال بعيد الزواج مثله مثل أي يوم في الأربعة وأربعين عامــًا من زواج البطلين. إلا أن الأيام الخمسة السابقة لهذا الحدث تشهد تحولاً دراميــًا في علاقة الزوج بزوجته.
فالزوج يتلقى خطابــًا في أول أحداث الفيلم عن وفاة سيدة كان يحبها قبل زواجه بـ "كايت". هذا الخطاب تنبني عليه باقي الأحداث خلال الأيام الخمسة اللاحقة. ينجح المخرج خلال بداية الأحداث أن ينقل لك هذا الشعور برتابة الحياة و بطئها. ففي كل يوم نستيقظُ ونفعل نفس الأشياء، لا يوجد هذا الشيء المحفز لعمل شيء مُختلِف لتكسير نمطية الأحداث.
الرسالة عندما أتت لـ"جيف"، وعلمت عنها "كايت"، تحولت الساعات التالية في حياتهما إلى دراما لا تنتهي. فمع بداية كل يوم من هذه الأيام حاول المخرج أن يرسم لقطة افتتاحية لمنزل الزوجين، يظهر فيها بشكل تعبيري اختلاف المناخ ما بين شتاء وصيف وربيع و خريف، في دلالة واضحة على التغير المتسارع في علاقة الزوج بزوجته خلال أيام معدودات.
رُغم أن الفيلم يدور حول خطاب يتلقاه الزوج، إلا أن الحكاية تتركز حول الزوجة وأحاسيسها تجاه ذلك الخطاب وتلك الحبيبة الراحلة وهذا الزوج الذي تكتشفه بشكل مختلف بعد كل هذه السنين. الأحداث تبدأ يوم الاثنين وتنتهي يوم السبت مع احتفال جيف " توم كورتني" وكايت " شارلوت رامبلينج"، وكأن للأيام دلالة هي أن البحث في أغوار هذه العلاقة سيبدأ مع يوم الاثنين والاحتفال يوم السبت بانتهاء هذا البحث، والعمل على معرفة الحقيقة وراء هذا الخطاب، وحقيقة العلاقة التي انتهت منذ نصف قرن بين جيف وحبيبته الراحلة، إذ تكتشف كايت حقيقة مشاعرها تجاه زوجها يوم السبت في خضم لحظات الاحتفال، فتعلم أنها وحيدة وأنها لم تكن تعرف هذا الزوج. فأيام خمسة صارت في مواجهة خمسة وأربعين عامــًا.
تعاطفُ "كايت" في بداية الأحداث مع حزن زوجها على صديقته القديمة لم يدُم، إذ أنها مع النهاية تقول له: لا أطيق سماع اسمها أو معرفة شيء عنها.
قد يرى البعض أن سن المرأة الكبير قد يجعلها أكثر نضجــًا وقدرة على تخطي المسألة، لكن حقيقة الأمر أنها لا يمكن أن تتخطى المسألة، لأنها اكتشفت بمرور الوقت أن زوجها كان يعيش بشكل كبير مع ذكرى حبيبته التي ماتت. فـ"جيف" الذي لا يهتم بالصور الفوتوغرافية التي تجمعه بأصدقائه وعائلته، ولم تجمعُه صور كثيرة مع زوجته، تكتشف كايت أنه كان مهووســًا بتصوير حبيبته.
وهنا تميز المخرج في تصوير ذلك المشهد الذي تشاهد فيه كايت صور قديمة لزوجها في شاشة العرض. إذ بَيَنّ المخرج من خلال التصوير صورة الزوجة وصورة الحبيبة وكأنهما في مواجهة ضارية، تنتصر فيها الحبيبة بشكل واضح عندما تصبح صورتها في منتصف الكادر في حين تكون الزوجة في جانبه.
مشهد آخر يوضح شعور الزوجة القاسي بسنوات العمر التي ضاعت مع هذا الزوج، عندما وجدت أصدقاءها قد قاموا بجمع صور عديدة لهما خلال السنوات، في حين لم يفعل الزوج ذلك، وربما تكون صور الزوج مع الحبيبة خلال سنوات قليلة، أكثر من صور الزوج مع زوجته خلال قرابة النصف قرن من الرابطة الاجتماعية المُقدَسة.
ما يُميز السيناريو أنه نجح في رسم الشخصيات وتطويرها خلال الأيام الخمسة، ففي كل يوم نعرف شيئــًا جديدًا عنهم، وكأنها لعبة المُكعبات، فتتضح لنا الصورة بشكل جيد مع نهاية الأحداث.
الفيلم في تيمته التي تتعلق برجل وإمرأة وعلاقة إنسانية مُركبة يلعب فيها شخص ثالث دورًا محوريــًا، وهذا الطرف الثالث لا نراه طوال الأحداث، قد ظهرت في أفلام أخرى مثل Rebecca 1940 وWho’s afraid of Virginia Woolf 1966.
نجح المخرج في أن يربطَك بالفيلم دون استخدام موسيقى تصويرية، فقط استخدام بعض الأغنيات الكلاسيكية التي عاصرها الزوجان في شبابهما، مثل أغنية Smoke Gets in Your Eyes لفريق The Platters وهي الأغنية التي تم الاستعانة بها في نهاية الفيلم، إذ كانت معبرة للغاية. فقد لخصت حكاية "كايت" التي اكتشفت أنها كانت مُحبة مخلصة لخمسة وأربعين عامــًا أما "جيف" فكان لا يرى سوى حبيبته ويعيش مع ذكراها.
لقد أعمى الحب قلب "كايت" عن الحقيقة التي عاشت معها داخل منزلها لمدة خمسة وأربعين عامــًا، فقلبها المُحِب قد حجب بدخان نيرانه الرؤية عن عينيها حتى الأيام الخمسة الأخيرة قبل الاحتفال بزواجهما.
45 years من إخراج وسيناريو أندرو هاي، مُستوحى من قصة قصيرة بعنوان "In another country" للكاتب ديفيد قسطنطين ومن إنتاج 2015، وقد حصل على جائزتي الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي الدولي لأحسن ممثل وممثلة.