بعض المُتخصصين في سوسيولوجيا السينما يرون أن الفيلم هو مُنتَج ثقافي، يتراوح في رسالته ما بين "الدلالي" و"المباشر"، بين ما تراه على الشاشة، وما لم تراه.
قد يسعى المُخرج وفريق العمل إلى إيصال الرسالة إليك بشكل مباشر، مسرحي مثلاً، خطابي أحيانــًا. وفي أحيان أخرى يُحرض داخلك مُتعة الخيال والتساؤل والتفكير والحيرة حتى تصل لإجابة وقد لا تصل.
هذا ما فعله معي مُخرج الفيلم الإسباني Magical Girl، إذ أثار لدّي تساؤلات عديدة عن أبطال حكاياته. أحبطني للحظات لأنه لم يعطني خلفية ولو بسيطة عن شخصيات الفيلم، ربطني بواقعهم الآني، دون أي معلومة تُذكر عن شخصياتهم في الكواليس. إلا أنني جلستُ طيلة الساعتين مُستمتعــًا بقدرة المخرج ومؤلف الفيلم كارلوس فيرموت على صناعة الحبكة وتحويلها بشكل جيد للغاية على مستوى الصورة دون إضافات زائدة، أو افتعال في الحوار.
فالشخصيات الثلاثة الرئيسية التي يدور حولها الفيلم، لا يربطهم أي شيء سوى علاقات غير مفهومة أو واضحة بشكل كافي. علاقات تظهر في مشهد واحد أو مشهدين على الأكثر بين كل اثنين منهما، لكنها علاقات محبوكة بشكل مُتقن، لا سبيل فيها للصدفة أو القدرية إلا في إطار محدود جدًا يقبله العقل.
فداميان " خوسيه سكاريستان" ذلك المُدرس الصارم الذي يظهر لمدة دقيقة واحدة في بداية الفيلم، لا نعلم عنه شيئــًا سوى أنه مُدرس لعدد من الطلبة ومن بينهم بطلة الفيلم باربرا " مارينا أندروكس" التي نراها وهي صغيرة، ثم بعد ردح من الوقت وهي متزوجة، تعاني من إضطرابات نفسية واضحة تجعل زوجها يهددها بالرحيل عنها إذا لم تكن جادة في علاجها.
"باربرا" تعيش حياة رغدة مع زوج يحبها، لكن اضطراباتها النفسية تأخذها دومــًا إلى مساحات خطرة، فمثلاً تمارس الجنس بشكل غير مُبرَر للحظة، ومنطقي جدًا في اللحظة التالية مع لويس "لويس بيرميجو" وهو الضلع الثالث للمثلث.
فـ"لويس" الذي مارس الجنس مع باربرا حاول أن يبتزها بإخبار زوجها، إذ لم تعطه مبلغــًا كبيرًا من المال. هذا المال سيشتري به هدية لابنته "آليسيا" التي تعاني من اللوكيميا، وحُلمها هو أن تحصل على هذه الهدية، لكن لويس، المُدرس أيضــًا، لا يعمل وقد حاول بيع كل الكتب التي يقتنيها في مكتبته حتى يستطيع العيش هو وآليسيا.
لُعبة القصص القصيرة المنفصلة المتصلة أداها فيرموت ببراعة، إذ قصّ علينا حكاية كل شخصية على انفراد بشكل سريع جدًا يجعلك تلهث وراءه حتى تفهم ماذا يحدث، وفي لحظة واحدة يقوم بربط الشخصيات الثلاثة بشكل عجيب. فباربرا المضطربة كي تحصل على المال تعود لنشاط قديم كانت تمارسه، لا نعلم صراحة ما هو، فالحوار لم يُقال فيه كلمة واحدة عن طبيعة هذا العمل، لكننا نفهم من خلال الصورة أنه نشاط جنسي يصل لدرجة من المازوخية والسادية اللتين يحصل فيهما المرء على المال الوفير، دون دخول في تفصيلات عن الشخص أو الجهة التي تمارس معها باربرا الجنس بهذا الشكل المفزع، والتي تظهر في أحد المشاهد وهي عارية تمامــًا وجسدها كله علامات من التعذيب أثناء ممارسة الجنس.
أما داميان الذي لا نفهم طوال الفيلم طبيعة علاقته بـ"باربرا"، هل هو والدها؟ أم معلمها؟ لا نعرف، المعلومات التي نملكها عنه أنه سُجن بسبب باربرا وهي صغيرة، ثم يقتل لويس وابنته آليسيا واثنين آخرين من أجل عيون باربرا.
وهنا يتميز المخرج مرة أخرى، إذ أن باربرا وآليسيا هما انعكاس لبعضهما البعض في نظر داميان، فقتل داميان لآليسيا فيه إجابة لتساؤل العلاقة بينه وبين باربرا. وكأنه أراد أن يقتل في آليسيا صورة باربرا التي جلبت عليه المتاعب طوال الوقت. أما لويس فقد حقق لفتاته أمنيتها بعد أن جنى المال من باربرا إلا أنه دفع حياته ثمنــًا لممارسته الجنس معها على يد داميان.
مثله مثل كوينتن ترانتينو في Pulp Fiction، حاول فيرموت أن يقول إن الخير والشر متلازمان، الفعل الشرير قد يكون وراءه غاية خيرة نبيلة.
مُعضلة أخلاقية تحدث عنها الفلاسفة والأدباء، فـ "جان فالجان" عندما سرق الخبز كان يريد أن يُطعم أخته وأطفالها، وروبن هود كان يقوم بسرقة النبلاء من أجل مساعدة الفقراء. هكذا فعل لويس صاحب الهدف النبيل لكن الوسيلة غير أخلاقية، وهكذا داميان الذي أراد الحفاظ على باربرا والدفاع عنها لكن وسيلته كانت القتل، ولا تختلف عنهم باربرا التي حاولت الحفاظ على سمعتها أمام زوجها، إلا أنها اتخذت مسارًا كاد يؤول بها إلى نهايتها.
يصل المخرج حرفية حبكته إلي منتهاها في مشهد مميز جدًا، عندما قام بتصوير داميان وهو يمارس لعبتَه المفضلة وهي تركيب الأشكال الصغيرة لتكوين لوحة كبيرة، وقبل أن ينتهي داميان من الوصول لآخر قطعة في اللوحة، يكتشف أن هذه القطعة ضائعة، أين هي؟ القطعة وجدها لويس بالصدفة في الشارع.
يقوم داميان بتفكيك اللعبة مرة أخرى في دلالة سينمائية بليغة عن اللغز الذي يعيشه داميان طوال حياته بسبب باربرا وأن حل اللغز هذه المرة سيكون مع لويس.
انتهى الفيلم، وكان شعوري يمتزج فيه السعادة بالحبكة الجيدة، والغضب لأن المخرج لم يُرض فضولي بمعرفة الشخصيات أكثر. إلا أنني وبالصدفة قرأت بعدها عن لغة السينما وما هو دلالي وما هو مباشر، فتذكرتُ أحداث الفيلم الذي ملأه المخرج بالدلالات، ليمنح مَنْ يشاهد مساحة الخيال والإبداع والتفكير لنسج خيوط قصة أخرى عن خلفيات هذه الشخصيات.
ولعل هذا الأمر أثار سؤالًا في ذهني لا أعرف إجابته: هل دَورُ السينما يكمن في إستثارة خيال المشاهد كي يخلق عوالم أخرى فيما وراء الشاشة والتساؤل والتفكير فيما بعدها؟ أم أنه يجلب له كل الخيال الذي يحتاجه من خلال الشاشة؟