تظل هذه العلاقة الشائكة بين عرقيات شبه جزيرة البلقان قائمة، فيشعر المرء بصعوبة فهم التشابكات بين البشر على مستوى السياسة أو الدين. وهذا ما تعمل السينما علي توضيحه عمومــًا فيما يتعلق بالأفلام السياسية، إذ تصبح الصورة سواء كانت على المستوى الروائي أو الوثائقي أبلغ تعبيرًا من مئات الكلمات المكتوبة في الصحف أو المراجع الأكاديمية، كما أنها تثير حس المعرفة لدى المشاهد للقراءة بعد ذلك بشكل أكثر تعمقــًا.
تستمر بانوراما الفيلم الأوروبي في عرض أفلامها المُتعلقة بهذه المنطقة الغنية ثقافيــًا، فنقترب أكثر من أهلها وعاداتهم. وفي الفيلم الصربي Enclave، نطل بروؤسنا عن كثب على حياة إحدى المقاطعات الصربية داخل كوسوفا التي شهدت حربــًا دامية بين ألبان كوسوفا، وجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية، إذ تعرض الألبان في الإقليم إلي تطهير عرقي، مما حدا بقوات حلف شمال الأطلنطي "الناتو" عام 1999 إلى إرسال قوات سميت بقوات كوسوفا أو "KFOR".
وبهذه الحروف مكتوبة على مدرعة تابعة للأمم المتحدة تبدأ مشاهد الفيلم الأولى، فبطل الفيلم "نيناد" الذي لا يتخطى العشر سنوات، يجلس داخل المدرعة ومعه أحد قساوسة المنطقة التي يقطنها غالبية من الألبان المسلمين وأقلية صربية مسيحية، وبالتالي فدور قوات كوسوفا هو حفظ السلام.
حاول المخرج منذ المشاهد الأولى أن يجعلنا نشعر بضخامة هذا البناء العسكري السائر على الأرض. احساس مزعج للأرض ذاتها أن يسير هذا الكيان عليها، صوت بشع من الصعب على النفس استساغته، فالألة عسكرية وإن كانت حافظة للسلم والأمن.
"نيناد" الذي يشعر بالوِحدة الشديدة في مدرسته، لا تلاميذ إلي جانبه، وحده مع المُعلمة كل يوم. مع عودته إلى منزله يرشق الأطفال الألبان المدرعة بالأحجار ناعتين إياه بــ"الصربي".
أسرة مسيحية صربية تكاد تكون الوحيدة في القرية، نيناد ووالده القاسي وجده الذي يحتضر وسط حصار الأسر الألبانية المسلمة التي تتعامل معهم بحذر شديد يدنوه كراهية أشد.
حاول الفيلم أن يمشي بخط متواز مع خط نيناد وأسرته، إذ يفتح لنا حكاية أسرة الطفل "بشكيم" الذي فقد والده منذ فترة، ويستعد أحد أقربائه للزواج. أسرة تقترب من الموت، وأخرى تقترب من حياة جديدة، وفي الوسط الكراهية، السلاح، الموت، والحرب.
الأطفال الذين يرشقون المدرعة بالحجارة يريدون أن يركبونها، فتنشأ علاقة صداقة بينهم وبين "نيناد"، هؤلاء الأطفال هم أصدقاء "بشكيم" الكاره بشدة للصرب المسيحيين لأنهم قتلوا والده.
تظهر شخصية القس وسط الأحداث في محاولة من المُخرِج القول إن الدين ليس هو المشكلة في هذه الدموية المُمتَدة لسنوات، بل إدراك الشعوب للدين وتفسيرهم له. فالدين لو لم يكن إنسانيــًا، وصار الدم لغته، فالأمر بالتأكيد له علاقة بمن يفسرونه.
القس ينقذ بشكيم الذي يصاب برَصاصة أثناء محاولة قتله لــ"نيناد". لماذا حاول بشكيم قتل نيناد؟ لأن الأخير رفض أن يلعب معهم "الاستغماية" إذ يجب عليه أن يأتي بالقس حتي يقوم بالصلاة على روح جده الذي تُوفي.
شخصية عمة نيناد، التي تأتي مُتأخرة بعد وفاة والدها، والتحول الذي حدث في مظهرها بعد وفاة والدها، احترامًا للموت، فوضعت حجابــًا على رأسها، وجلست بجانب جسده المُسجّى على الفراش، وألبسته ثوبــًا جديدًا تقليديــًا كما كان يرغب قبل وفاته.
على الناحية الأخرى تظهر شخصية جد "بشكيم" الذي يريد الفرحة بحفيده، فيرتدي الزي التقليدي الجميل ويرقص على نغمات الدفوف، ويضرب الطلقات النارية في الهواء احتفاءً بهذا الشاب الصغير.
أما والد نيناد، فهو أب قاسٍ إلى حد كبير، يرى في ابنه رجلًا فعمره ليس خمسة أعوام. لكنه يصاب بالذعر الشديد عندما لا يجد ابنه في المنزل قبل جنازة الجد، رغم وجود القس والصلاة على روح الشيخ المُتوفي. القِس وسط الفيلم حاول أن يصنع بناءً خشبيــًا يضع فيه جرســًا كنائسيــًا يساعد السكان في صلاتهم. داخل هذا البناء الخشبي يتواجه الطفلان بسبب اللعبة فيرفع بشكيم سلاحه في وجه نيناد محاولاً إجباره على اللعب، فيطلق النار على الجرس الذي يوجد نيناد بداخله، ومع تعدد الطلقات، تنطلق إحدى الشظايا نحو قدم بشكيم فيسقط، ومعه ينهار جزء من البناء فيسقط الجرس على نيناد كذلك.
إذا كان القس قد أنقذ بشكيم من الرصاصة، فجرس الكنيسة قد أنقذ نيناد من عدة رصاصات. بشكيم الذي حاول قتل نيناد، الآن يحاول إنقاذه بعد أن استوعب الدرس الذي فعله القس، ورؤيته لوالد نيناد وهو يبحث عنه في جنون، فذهب لخصمه وأخرجه من تحت الجرس بمساعدة قوات كوسوفا، من أجل الذهاب لدفن جده.
يرحل نيناد من القرية مُنتقلاً للعاصمة الصربية بلجراد، ظنــًا منه أنه سيعيش هناك بشكل أفضل. إلا أن العنصرية التي عاشها نيناد مع المسلمين في المقاطعة الكوسوفية، لم تتوقف في بلجراد، إذ وجد نفسه مُحاطــًا بأطفال صربيين مثله لكنهم يصنفونه كوسوفيــًا مُسلِمــًا لأنه كان يعيش هناك، وبالتالي فشعوره بالوِحدة لم ينته.
ورغم علاقته الصراعية مع بشكيم التي كادت تنهي حياة أي منهما أو كليهما، إلا أنه شعر أن صديقه الوحيد الذي اقترب منه هو بشكيم، فكتب في مدونته أن صديقه الأقرب هو بشكيم.
الفيلم تميز بالسرد الذكي، فلا هو عَقّدّ الصراع بالنسبة للمشاهد، ولا قزَّمَّه، سار بسلاسة مثيرة تجعلك تتساءل ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ربما ما جمع أفلام البلقان المعروضة في البانوراما أنها ذات إيقاع بطئ إلى حد ما، إلا أنه مقبول في المُجمَل، طالما يعرض على مستوى القصة والصورة شيئــًا جيدًا.
وهنا تأتي المُلاحظَة، فكل الأفلام التي جاءت من البلقان كانت رائعة على مستوى التكوينات البصرية والطبيعة والألوان واستخدام الإضاءة، كذلك الأزياء المُستخدَمة في أحداث الأفلام كانت مُختلِفة مُقارَنة بباقي الأفلام الأوروبية.
الفيلم من إنتاج عام 2015، أخرجه وكتبه الصربي جوران رادوفانوفيتش، وقد حصل الفيلم على جائزة الجمهور في مهرجان موسكو السينمائي الدولي.