مرة أخرى تتجدد النقاشات السينمائية وتزداد سخونة وانقسامًا في الآراء بعد إصدار المخرج والكاتب داوود عبدالسيد لأحدث أفلامه " قدرات غير عادية" الذي انتظرته الساحة السينمائية المصرية لمدة تزيد عن العام فور مشاركته في الدورة الحادية عشر من مهرجان دبي السينمائي الدولي، حيث كان مقررًا له أن يعرض في البداية مع مطلع عام 2015، ثم انتهى الأمر بعرضه في نهاية العام ذاته.
ومن جديد لا يخرج هذا الفيلم كثيرًا عن العالم السينمائي الذي اعتدناه من داوود عبدالسيد في أفلامه السابقة، حيث يختار له فكرة قادرة على إعادة اكتشاف الجانب الوجودي الذي يهوى تقديمه في مختلف أفلامه، ويضيف عليها هذه المرة بعدًا باراسيكولوجيًا، كما ينتقي لأحداثه مكانًا برزخيًا "البنسيون" مجردًا من التسمية أو الانتماء الجغرافي ليكون هو الملتقى الرئيسي لأشخاص عديدين من مختلف الاتجاهات والميول، كما يمتد هذا التجريد كذلك خارج البعد الزمني، وربما أراد أن يخلق لفيلمه زمنًا سحريًا يتجاوز المفهوم التقليدي للزمن الواقعي وقيوده، وإلا فلماذا كان بطل الفيلم يحيى المنقبادي " خالد أبو النجا" يقوم بقراءة الرواية المصورة Habibi للكاتب والرسام الأمريكي جريج طومسون التي تعاملت هى الأخرى مع العامل الزمني بنفس المنطق، والتي لا أظن إطلاقًا أنه وضعها في يد بطله عبثًا؟
لكن على قدر ما كانت الفكرة مبشرة جدًا وحاملة لبذرة عمل مختلف، لن تستطيع أثناء المشاهدة الهروب من ذلك الشعور بأن فكرة الفيلم كانت عبارة عن فكرة أولية لم تحصل على الوقت الكافي للنضوج والنمو وتم قطفها قبل أوانها بكثير، لتتحول الفكرة إلى شبح متواجد يبحر بين أمواج سيناريو تائه ومتشرذم ومشوش لا يدري إلى أي ميناء يريد أن يحط ركابه.
هذا الأحساس الكبير بالتيه يتعاظم ويتضح أكثر على اسوأ وجوهه في النصف الثاني من الفيلم، كنت أرى أن الفيلم في حاجة ماسة لإعادة النظر في نصه المكتوب من جديد قبل الشروع في تنفيذه، كان يجب العمل أكثر على إعادة ترسيم حدود وطريقة تشكل العلاقة المتذبذبة بين يحيى وحياة " نجلاء بدر" وطريقة افتراق مساراتهما عن بعضهما البعض بحجة ملاحقة السلطة لأصحاب القدرات غير العادية، وحدود الرحلة التي يقوم كل منهما بخوضها منفردًا، لكن من الواضح أن داوود من شدة تأثره بأجواء وحالة رواية Habibi قد خانه التوفيق كثيرًا في تشكيل نص متسق مع نفسه، وكل ما كان يعتمل في ذهنه مجرد شذرات للحالة المراد تكوينها.
وما يفاقم الأزمة التي يعاني منها نص الفيلم هو ذلك الخلط الكبير وعدم الترسيم الواضح للحدود بين المستويات المباشرة (رحلة يحيى وحياة وفريدة) وغير المباشرة للنص (رحلة البحث عن تفسير لما هو غير منظور)، ففي وسط مشاهدتك للفيلم تشعر أن النص يهتك بعنف ستر المستوى الدرامي الذي من المفترض أن يظل مستترًا حتى لا يؤثر على المستوى الدرامي المباشر ويؤثر على إدراك الحكاية ككل، لكن في نفس الوقت هذه المشكلة ليست خاصة بهذا الفيلم فقط، بل هى حاضرة في سائر أفلام داوود عبدالسيد، لأنه طيلة الوقت - وكما كان يردد دومًا - لديه هاجس داخلي من عدم وصول مغزي فيلمه إلى كافة شرائح المشاهدين، فيعمد إلى وضع مضامين ورسائل أفلامه على شكل مونولوجات أو حوارات طويلة، وهو الأمر الذي يكرره في هذا الفيلم أكثر من مرة وفي أكثر في مشهد حواري حتى نكاد نصرخ لنقول له " كفى، نقسم لك أننا قد فهمنا".
ما يزيد عن الأفلام السابقة أنه لا يكرر فقط ما يريد قوله لفظًا، بل يكرره بصريًا أيضًا، ففي عدة مشاهد يؤكد داوود أكثر من مرة على المستوى البصري الخوف من الطغيان الكبير للسلطة الدينية على رقاب كافة العباد عن طريق الإظهار المكثف طوال الفيلم لمجموعة من الملتحين الذين يعيشون في هذه المنطقة البرزخية التي يقع بها البنسيون وهم يظهرون امتعاضًا وضيقًا من مرور السيرك بالمنطقة، أو قلق البائع من دخول رجل ملتحٍ في مشهد آخر خلال لفه لزجاجة نبيذ في ورق جرائد.
وبما أننا نتحدث عن السلطة، فدعوني أقول أن استخدام حجة ملاحقة السلطات لأصحاب القدرات غير العادية من أجل خلق دافع لافتراق المسارات بكل من يحيى وحياة لهى حجة هشة دراميًا تذروها الرياح، فهى تأتي بدون أي تأني في التأسيس حتى نصدق بأن حياتهم بالفعل في خطر من جراء ملاحقة السلطة لهم، كما لم يرينا داوود بأعيننا أي مظاهر لسيطرة هذه السلطة التي دومًا ما يتحدث عنها أبطال الفيلم شفاهيًا فقط سواء قبل معرفة السلطات بموضوع الطفلة فريدة أو بعدها، بل وحتى الحديث عن الاختبارات التي تعرضت لها الطفلة فريدة من قبل السلطات تأتي هى الآخرى على نحو شفاهي فقط.
لنعود الآن إلى شخصية البطل ذاته، الدكتور يحيى، لم أفهم حتى الآن سبب اختيار وظيفته كطبيب دراميًا، لأني لم أشعر بأي خصوصية درامية بعينها يمكنها أن تجعله طبيبًا، كان من الممكن أن يمارس أية وظيفة أخرى بدون أن يتأثر السياق الدرامي إطلاقًا، وكان المبرر الدرامي الوحيد لكي يمتهن هذه الوظيفة هو دخول عمر البنهاوي " عباس أبو الحسن" الذي يقوم بتمويل بحثه عن القدرات غير العادية إلى حياته، وهذا كل شيء، لذلك حاول أن تجعل يحيى باحثًا اجتماعيًا أو صحافيًا أو كاتبًا روائيًا ولن يغير ذلك في الأمر شيء.
وبما أن البطل نفسه يخوض رحلة ذاتية بعد فراقه عن "حياة"، ولأن الصوفية ومظاهرها الخارجية قد صارت هى السلعة الرائجة التي ستقنع أي مشاهد نصف مثقف أو من أدعياء الصوفية بأن ما يشاهده لهو "تجربة عرفانية عميقة تضرب بجذورها في أزمة الإنسان المعاصر الباحث عن الإجابات لكل التساؤلات حول كل ما هو غير منظور في عالمنا المادي الملموس"، فكان لابد بالطبع من وجود خط درامي يتلامس مع الصوفية ولو عرضًا، ولا بأس من تشغيل أغاني ياسين التهامي وأحمد التوني في خلفية المشهد لكي يكتمل الجو المطلوب، لكن مهلًا: ما الذي يفعله هذا الخط هنا؟ هل هو محاولة وضع خط جديد تحت المستوى الدرامي غير المنظور للفيلم الذي صار مكشوفًا بالفعل، أم هو كما قلت في أعلى الفقرة، مجرد مواكبة لموضة الاستغلال الدرامي للصوفية على غرار ما فعلته أفلام سابقة مثل (أ لوان السما السبعة، فرش وغطا، القط).
وبعيدًا عن هذا الخط الصوفي الدخيل، ما هو وجه الخصوصية الذي يتمتع به يحيى في الأساس عن بقية الشخصيات لكي نكون مهتمين في الأصل بمتابعة رحلته الذاتية في البحث عن حقيقة عالمه؟ إن شخصية يحيى لا يوجد بها أي شيء يميزها دراميًا وأدائيًا حتى عن بقية شخصيات البنسيون، كلهم يتحدثون بنفس اللغة تقريبًا وبنفس "التون"، ولا يفرق بينهم دراميًا سوى بعض التفاصيل الخارجية السطحية التي لا تنجح في صنع خصوصية لها مثل غناء رامز الأوبرالي وضحكة الشيخ رجب المستهزئة ولهجة حبيب الله السودانية.
ربما كانت الشخصية الوحيدة التي أفلتت إلى حد كبير من هذا الركود الدرامي في رسم الشخصيات هى شخصية الفتاة فريدة نفسها " مريم تامر" وذلك بفضل حضورها التلقائي وشقاوتها الطفولية التي نجحت في لفت الانتباه إليها أكثر من بقية الممثلين الذين يشاركونها في الفيلم، وليس بفضل السيناريو مطلقًا، بل إن السيناريو يتجنى عليها حينما يخسف بمساحتها الدرامية في النصف الثاني من الفيلم ولا تظهر إلا بشكل عابر بعد التيه الكبير الذي يقع فيه السيناريو.
أعتقد أن محبو أفلام داوود عبدالسيد المخلصين سيحبون هذا الفيلم بشدة لأنه يشتمل على كل العناصر التي عايشوها في أفلامه كلها، لكني على النقيض شعرت بحسرة شديدة فور انتهائي من الفيلم، وتزداد حسرتي كلما تذكرت تيه السيناريو وسطحية الشخصيات ومباشرة الرسائل، لكن ما كاد يدفعني لحافة الانهيار هو التنفيذ المضحك والسيء لمشاهد أسد السيرك المحبوس داخل قفصه بالمؤثرات البصرية، ليكون حصيلة ما شهدته من الفيلم "حسرات غير عادية" وليس "قدرات غير عادية".