لا أظن أن التناول النقدي لفيلم كان مرتقبًا بكل هذا الحماس مثل The Revenant بالمهمة اليسيرة على الإطلاق، ولا تتعلق المسألة فقط بانتظار الجديد الذي سيقدمه المخرج المكسيكي الحائز على الأوسكار في العام الماضي أليخاندرو جونزاليس إناريتو بعد فيلمه Birdman ويصحبته هذه المرة النجم ليوناردو دي كابريو، ولكن لأن الفيلم نفسه يقع في منطقة رمادية تصعب كثيرًا من تلك المهمة.
إذا أردنا تفصيلًا دقيقًا حول المقصود بهذه المنطقة الرمادية المعنية، فيمكن وصفها أنها حلقة وسطى تقع بين حالتين صريحتين: بين تميز العمل الفني على نحو لا يمكن إنكاره، وبين رداءته البينة، وهو نفس الإحساس الذي يراودك حين تريد القول بأنك لم تكن تشاهد منذ قليل في صالة العرض فيلمًا سيئًا، ولكنه في نفس الوقت فهو ليس أيضًا بالفيلم بالغ التميز الذي يمكنك منحه العلامة الكاملة وأنت مرتاح البال.
جزء من هذه المعضلة التي يقع فيها الفيلم تقوم على بنيته التي تتركب من سلسلة من المواقف العصيبة التي يمر بها هيو جلاس (ليوناردو دي كابريو) فور وقوعه فريسة لدب مفترس أصابه بجروح بليغة، لتصير كافة مواقف الفيلم اللاحقة كلها مجرد تنويعات على تيمة النجاة ممتزجة بتيمتي الروابط العائلية والانتقام، خاصة مع رغبة هيو في النيل من جون فيتزجيرالد ( توم هاردي) الذي خانه وأفقده ابنه.
أنا لا أقول بالطبع أن هناك مشاكل في التطور الدرامي لهذه القصة المبنية على وقائع حقيقية، أو مشكلة في الدوافع المحركة لشخوص الفيلم جميعهم، أو حتى في حجم صمود هيو جلاس أمام كل الأخطار التي تعرض لها في رحلته الطويلة بما قد يتهمه البعض بالمبالغة (فقد خفف الفيلم حتى من الكثير ملابسات القصة الحقيقية)، وكل هذه الجوانب تسير بالطبع على خير ما يرام داخل الفيلم، لكن ربما كانت المشكلة في وحدة النغمة المحركة للفيلم إن جاز التعبير، وهذه الوحدة ليست في اﻷحداث نفسها، وإنما في كيفية البناء نفسه الذي يستند إلى سلسلة من الاختبارات الصعبة التي يقاسيها البطل.
من البديهي والمفهوم أن الفيلم يستند في اﻷساس إلى واحدة من أقدم أشكال الصراع الدرامي التي ظهرت مع ظهور الفنون، وهو صراع الإنسان مع الطبيعة اﻷم، لكن الطريقة الغالبة على تقديم هذا الصراع ربما كانت غير متوازنة خاصة إذا لاحظتها عند النظر إلى موازين الثقل الدرامي في السيناريو خاصة مع الخط الخاص بهيو جلاس.
وعلى النقيض تمامًا، تجد أن الثقل الدرامي يتكثف أكثر في الخط الخاص بجون فيتزجيرالد ويعوض ربما قليلًا عن أحادية النغمة التي يسير بها خط هيو جلاس، حتى ولو كان الفيلم يحاول دفعنا بشكل واضح للتعاطف مع أحد طرفي الصراع ضد اﻵخر وهو أمر مفهوم، وذلك بسبب لجوء السيناريو هذه المرة إلى شكل آخر من أشكال الصراع الدرامي وهو الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان.
وبعيدًا عن الالتباس الحادث في السيناريو، يمتلك الفيلم قوتين ضاربتين في أوصاله، اﻷولى بالطبع هى تصوير إيمانويل لوبزكي الذي ينجح في إصابة الهدف مجددًا بشكل يضيف حقًا لمنجزاته السابقة في التصوير من حيث استغلاله الممتاز للقطات الواسعة والتصوير المتصل خاصة في مشاهد الاشتباكات والمعارك، والثانية هى الموسيقى التي وضعها للفيلم كل من ألفا نوتو وريوشي ساكاموتو التي تنجح رغم بساطتها الشديدة وعدم وجود ثيمات ثابتة بها في التوائم التام مع أجواء الفيلم ومواقفه العصيبة.
وبالطبع، يعود جزء كبير من الاهتمام المحيط بالفيلم بسبب تولي ليوناردو دي كابريو لمهمة بطولة الفيلم، ومع التوقعات العارمة بفوز دي كابريو هذه المرة باﻷوسكار بعد خسارته في المرات السابقة مما شكل مادة دسمة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن تقييم أدائه هنا هو أمر محير، صحيح أنه يبذل أقصى ما لديه للشخصية بالفعل، لكن ما يصعب مشكلة التقييم هو أننا نرى جانب شبه وحيد دون غيره في أدائه، وهو الجانب المتألم من المخاطر التي يتعرض لها طوال رحلته الصعبة، أما الجوانب اﻷخرى من أدائه فكانت تظهر بشكل سريع وسرعان ما تختفي للجانب الوحيد المسيطر على أدائه، فهل يمكن إرجاع المشكلة للسيناريو الذي يحصره في جانب واحد، أم كان على دي كابريو أن يقوم بالمزيد؟ الحقيقة لا أعرف.
لن أندفع مثل غالبية أصدقائي وأقول لك أن الفيلم لا يستحق عناء مشاهدته في صالة العرض السينمائي، لكن في الوقت ذاته سأنصحك بألا ترفع سقف توقعاتك حول الفيلم ﻷقصاه، بل حاول أن لا تضع أصلًا أي توقعات مسبقة، وربما حينها قد تحب الفيلم بشكل كلي، ومرة أخرى، The Revenant ليس فيلمًا سيئًا على اﻹطلاق، لكنه أيضًا ليس بفيلم خارق للعادة.