تحذير: المقال قد يكشف بعض أحداث العمل
فيلم Youth/الشباب/الصبا هو الفيلم الذي حصد ثلاث جوائز كأفضل فيلم أوروبي عام 2015، وأفضل مخرج وأفضل ممثل، للممثل الإنجليزي مايكل كين، وذلك من أصل خمس جوائز رُشح لنيلها الفيلم (وهي الجائزة التي تمنح للأفلام ذات الإنتاج الأوروبي).
ينتمي هذا الفيلم إلى سينما "المخرج المؤلف" فقد كتبه وأخرجه للسينما المخرج والسيناريست الإيطالي باولو سورينتينو، والذي يعرض فيه رؤيته عن الفن بشكل عام، وأن الفن ليس كأي مهنة أخرى، إذ يعني الفن لصاحبه الحياة ذاتها، وأنه دون أن يشعر بهذا الفن وينبع من داخله فكأنما يحيا بلا روح.
الحدوتة
تدور أحدث الفيلم حول الموسيقار "المأزوم" فِرّيدْ بالينجر/مايكل كين، والذي يعتزل الفن بعد مرض زوجته، ليذهب إلى منتجع صحي في سويسرا، برفقة صديقه المخرج السينمائي ميك/ هارفي كيتل، الذي يعمل برفقة فريقه على كتابة سيناريو ليكون العمل الأخير من إخراجه، ويعيش فِرّيد مع ابنته "المأزومة" لينا بالينجر /راشيل وايز بعد هجر زوجها لها، ويأتي مندوب الملكة إليزابيث ليطلب من بالينجر أن يقود الأوركسترا في عيد ميلاد الأمير فيليب، ومع رفض بلينجر بسبب اعتزاله الفن ومع إصرار الملكة، ومحاولات صديقه وابنته لعودته للعمل تتصاعد الأحداث.
الصبا والشيخوخة
إن فكرة الصبا والشيخوخة عند سورينتينو قد تجلت في عدة مشاهد، إلا أن هناك مشهدين يظهران بشكل واضح الصبا والشيخوخة في فكر سورينتينو سنتناولهما بالتفصيل، وبين شخصيتي بالينجر الموسيقار الكبير وجيمي/ بول دانو الممثل الشاب؛
المشهد الأول؛ عندما يتحدث بالينجر مع ميك حول فرحته بأنه تبول بشكل طبيعي في هذا اليوم بعدما كان يعاني كلاهما من عدم القدرة على التبول بشكل طبيعي، مما يشير إلى أننا مع مرور الشباب والصحة يمكن أن نفرح بالشيء البسيط والذي نفعله بشكل تلقائي دون أن نشعر، في رسالة لتقدير الصحة فهي الهبة التي لا نراها إلا عندما تزول.
أما المشهد الثاني فقد كان بين ميك وبين الفتاة عضوة فريق السيناريو، وهو يُشير عليها أن تنظر في التلسكوب فتري الجبل البعيد يبدو قريبًا جدًا منها، ثم يُدير ميك التلسكوب ويطلب منها أن تنظر فيه لأصدقائها، فتراهم بعيدين جدًا رغم قربهم منها، وهنا يوضح لها ميك الفرق بين الشباب والشيخوخة وبين الماضي والمستقبل، أما الشباب فيروا كل بعيد قريبًا، لأن المستقبل لازال أمامهم، أما العجائز فيروا كل قريب بعيدًا، لأن الماضي خلفهم ثقيلًا وبعيدًا.
إن أكثر ما يؤرق الفنان ألا يتذكر جمهوره من أعماله إلا دورًا واحدًا فقط، ويزيد الأرق والقلق للفنان إذا كان لا يرضى عن هذا الدور ويشعر بأنه أدى أدوارًا أفضل منه، عندها يصبح الفنان في مأزق، وهو ما يربكه أحيانًا في كل اختياراته المستقبلية، ولم يتخلص جيمي من أزمته إلا بالتصالح مع هذا الموقف والتخلي عن دور هلتر الذي كان سيؤديه، ويقرر أن يتبع الرغبة فقط، فهي الدافع للحياة، ليتصالح بعدها بالينجر مع موقف مشابه، فقد كان يتذكره الجمهور بمقطوعته الموسيقية "سيمبل"، فيقود الأوركسترا بشكل أسطوري أمام الملكة إليزابيث في النهاية، كلا الشخصيتان تمثلان الصبا والشيخوخة، وكأنهما شخصًا واحدًا في مرحلتين عمريتين مختلفتين.
الفن يساوي الحياة عند سورينتينو
لينا: بابا الفرنسيين _ المسؤولين في دار نشر فرنسية_ اتصلوا بك مجددًا بخصوص كتاب سيرتك الذاتية، ماذا أقول لهم؟
بالينجر: قولي لهم بأن ينسوني وينسوا الأمر، لقد توقفت عن العمل!
ميك: وتوقفت عن الحياة أيضًا، يمكنك أن تخرج عواطف جديدة
بالينجر: إن العواطف ترهقني
في هذا المشهد يوضح سورينتينو على لسان أبطاله أن الفن لديه يعني الحياة، كما أوضح ميك لصديقه، ويؤكد هذه الرؤية من خلال ميك أيضًا، الذي يقرر الانتحار، بعدما يفشل مشروع فيلمه الأخير بسبب اعتذار بطلة العمل برندا مورال/ جين فوندا ليصاب بالإحباط والصدمة من صديقته وبطلته وممثلته المفضلة من بين كل الممثلات اللاتي عملن معه، والتي طلبت منه أن يعتزل الإخراج لأنه أصبح عجوزًا ويخرف، قائلة له "الحياة يمكن أن تمضي دون سينما" ولكنها كانت مخطئة فالحياة عند ميك بشكلها المادي والنفسي تعني الفن.
يتضح هذا المبدأ أيضًا لدى سورينتينو من خلال الأزمة التي مر بها بالينجر واعتزاله للفن، ما أفقده الرغبة في عمل أي شيء، ليعيش حياة روتينية تُفقده الرغبة في الحياة ذاتها، ما أثر بالتالي على صحته، وما زاد الأمر تعقيدًا أنه لم يكن يتصور أن تغني أي مطربة أخرى أيًا من مقطوعاته التي كانت تغنيها زوجته، فقد ألف موسيقاه لها وحبًا فيها.
الرؤية الأحادية للعلاقات والأشياء
كانت تلك هي رؤية الابنة لينا في لومها لوالدها على إهماله لها ولأمها، وأنه لم يكن يحبهما ولم يحب سوى الموسيقى وفقط، كان عمله هو كل حياته وما دون ذلك غير مهم، كما لامته على علاقاته المتعددة "وخيانته" لأمها، فكان هذا جانب من الصورة إلا أنه في مشاهد أخرى يتضح أن لينا "المأزومة" -بعد هجر زوجها لها للزواج بأخرى- كانت مندفعة ولا ترى الصورة كاملة؛ حيث يحكي بالينجر في إحدى حواراته مع ميك أنه كان يفعل الأشياء الصغيرة من أجل ابنته وكان يتوقع أنها عندما ستكبر ستتذكر ذلك، ولكنها لم تتذكر شيء واتهمته بالقسوة والإهمال.
وفي حوار آخر بين لينا وميك قالت إنها أستيقظت على يد والدها تمسح على وجهها وهي نائمة، إلا أن المشهد الذي يوضح جيدًا أنها لا تدرك الصورة كاملة، وأن والدها يحب أمها ولا يكرهها أو يتنكر لها كما تظن، هو عندما رفض العزف أمام الملكة لأنه لم يكن يتصور أن تغني سيدة أخرى غير زوجته اللحن الذي ألفه خصيصًا لها وكان حبهما ملهمه لتأليفه.
مشهد آخر، ذلك الذي يزور فيه بالينجر زوجته ويحكي عن حبه الشديد لها، ويرسل سورينتينو من خلاله رسالة أخرى إلى كل إنسان يظن أنه يدرك الصورة الكاملة لعلاقة ما مهما كانت درجة قربه من هذه العلاقة.
رسائل أخرى
عندما تتعارض المصالح الشخصية بشكل مباشر، قليل من يحرصون على اﻹنصاف، وهو ما حدث مع ميك عندما انسحبت بريندا من بطولة الفيلم، وتسببت في فشل المشروع بالكامل، فقام أحد أعضاء فريق كتابة السيناريو بسبها، فدافع عنها ميك، ثم كرر الهجوم عضو آخر قائلًا "إنها سكيرة"، ليكون رد ميك واضحًا وحاسمًا "إننا جميعًا نفعل ذلك"، هذا المشهد يوضح مدى نُبل شخصية ميك، فرغم أنه المتضرر الأكبر إلا أنه ليس مريضًا بالفصام والازدواجية التي تجعله يهاجم أحد على فعل "السُكر" وهو يفعله.
من البداية ودائمًا يشكك بالينجر في كلام المتعبد الأسيوي الذي يمارس اليوجا وقدرته في الجلوس على الهواء، ولم يتمكن من فعلها طوال غوص الشخصيات في الأزمات النفسية، وكأن هذه الشخصية ترمز إلى روح الشخصيات التي ترتقي بالتحرر من الأزمات وقبول ما تعجز عن تغييره، فلا يمكنها الطيران إلا بإدراكها أنها قادرة على الطيران، ولديها الرغبة فيه، وهو ما يتجلى في مشهد "المتعبد اﻷسيوي" وجلوسه على الهواء، بعد تحرر الشخصيات من أزماتها والبدء في حل مشكلاتها الداخلية، الممثل الشاب جيمي تري/بول دانو لم يعد يتنكر لدوره الشهير ويتقبله، كما يقرر التخلي عن تقديم شخصية هتلر بعدما عايش الشخصية ولم يتقبلها، حتى لا يُحمل نفسه بمزيد من الكراهية، ولذا قرر أن يستسلم للرغبة ويبتعد عن الخوف، فالرغبة هي الدافع للحياة، كما أن لينا بدأت تدرك الحب والحرية وتتخلص من أزمة ترك زوجها لها، فكان المشهد يوحي ببداية انفراجة الأزمات الشخصية لشخصيات العمل وتحررها من قيودها التي وضعتها كل شخصية على نفسها، وكأنه سمو لروح الإنسان على مشكلاته المادية.
بموت ميك يأتي إعلان انتصار العواطف والحب الذي كان يسخر بسببهم من صديقه الذي اعتزل الفن بسبب مرض زوجته وعواطفه تجاهها، فقد كان بالينجر يربط بين الفن والعواطف والحياة، بينما كان ميك يفصل بينهم، ليدرك بعد أزمته بأنه كان مخطئًا.
على هامش الحدوتة وتكوين الصورة
يتبنى الفيلم فكرة الصراع الداخلي للشخصيات، فلا نجد الصراع الدائر بين الأبطال، وإنما نجد مجموعة من الأبطال "الفنانين المأزومين"، الذين تعرضوا لأزمات مختلفة، وكيف يتعامل كل منهم مع أزمته داخليًا، وأحيانًا ما يشوب هذا النوع من الأفلام بعض الملل، ولكن مع مخرج مثل سورينتينو واللوحات الفنية التي رسمها، لا يمكن أن تشعر بهذا الملل مطلقًا، فكل كادر ومشهد يمكن أن يكون لوحة فنية منفصلة.
شخصية الرجل والمرأة اللذان لا يتحدثان في المطعم، هذه المرأة التي خانها زوجه، فتقوم وتصفعه على وجهه أمام رواد المطعم وتتركه، وكأنها تمثل أمنية لينا الداخلية بأن تفعل أمها نفس الفعل مع أبيها وتتركه.
صورة فنية رائعة أخرى، ظهرت في مشهد مهاجمة لينا لأبيها واتهامه بعدم اهتمامه بها أو بأمها، لتأتي الممرضة وتخفض السرير الذي ينام عليه الأب مع ثبات السرير التي تنام عليه لينا، ليظهر الكادر وكأن الأب بعد مشاعر ابنته قد سقط من الصورة، في تكوين بصري ملائم لمشاعر لينا تجاه والدها في هذه اللحظة، قبل أن تستشعر حنيته وحبه مرة أخرى.
وقد جاء أداء كل من مايكل كين وهارفي كيتل وراشيل وايز لأدوارهم بشكل يوضح الأزمة الداخلية لكل شخصية، أو تلك الأزمة بين الأب وبنته، أو تلك الذكريات بين الصديقين، اللذان تنافسا في الماضي على حب فتاة، وكيف أظهرا الانفعلات الداخلية بشكل جعلنا نتعايش معهم ومع أزمة كل شخصية على حدا.
كما أن موسيقى ديفيد لانج كانت حاضرة بقوة لتشكل خلفية رائعة لكادرات سورينتينو التي تشبه لوحات فنية بديعة.
وأخيرًا أظن أن بعض الشخصيات ثقيلة على العمل، أو دخيلة عليه، مثل شخصية دييجو مارادونا والمرأة المرافقة له، فلو تم حذفهما لن يؤثرا على السيناريو أو العمل ولكان العمل أكثر رشاقة وتركيز على محاوره الرئيسية.
بشكل عام نحن أمام لوحة فنية بديعة تتشابه نسبيًا من حيث التكوين وبنية الصراع النفسية مع فيلم "قدرات غير عادية" للمخرج داوّد عبدالسيد.