دائمًا ما كنت أقدر كثيرًا أعمال الفنان التشكيلي البريطاني جيمس ماكنيل ويسلر، ولمن سيفتش في لوحاته الرائعة عبر شبكة الإنترنت، سيلمس من هذا الفنان - وخاصة في بورتريهاته - دراسته المتأنية والدقيقة للألوان وعلاقتها ببعضها البعض، وعلاقة درجات اللون الواحد ببعضها البعض لدرجة دأبه الشديد على تجهيزه عشرات الدرجات من اللون الواحد قبل إقدامه على العمل على أي لوحة لكي لا يعطله أي شيء عن الوصول للدرجة المناسبة، بل إنه كان يسمى لوحاته على الألوان المستخدمة، مثل لوحته الأشهر ( link) التي كانت والدته هى بطلتها.
تذكرت لوحات ويسلر بشكل جلي وبرقت أمام أعيني خلال مشاهدة فيلم Brooklyn للمخرج جون كرولي، وهذا الأمر لم يأت من فراغ، بل جاء من تأكيد كرولي في صورة فيلمه على ألوان بعينها يضع تحت منها مائة خط في كل مرة، وعلى رأس هذه الألوان كان الأخضر هو سيد الموقف وسيد اللحظات خاصة في ملابس بطلتنا إيليش ( سيرشا رونان) التي وفدت من أيرلندا كمثل ملايين الأيرلنديين إلى الولايات المتحدة الأمريكية سعيًا وراء البدء من جديد في مقتبل العمر.
على مدار النصف ساعة الأولى من الفيلم، لم تكن إيليش ترتدي تقريبًا سوى اللون الأخضر بكل درجاته - فيما عدا ساعات العمل التي كانت ترتدي فيها اللون الأسود الذي يعبر عن رسمية صارمة - ولنقل أن الأخضر هنا هو تمثيل للطبيعة الأولية في نفسية إيليش التي تطمح كمثل أي فتاة في سنها نحو الاستقرار النفسي والعاطفي، هذه الطبيعة التي لم تتغير كثيرًا في بدايات رحلتها إلى العالم الجديد ربما لأنها لم تكن تسعى بمحض إرادتها للهجرة إلى أمريكا، وإنما لأن الأمر جاء في طريقها، لتتعامل معه بكونه خيارًا مختلفًا لتحقيق نفس الحالة من الاستقرار التي كانت تنشدها في وطنها.
كما يمثل الأخضر - ربما - الطريقة التي تستشرف بها إيليش عالمها الذي اتسع دون تخطيط منها، وحالة البراءة التي كانت تستقبل بها كل ما يقابلها نظرًا لحداثة عهدها بالتجارب التي مرت بها، كتجربة السفر على السفينة التي تعلمت منها كثيرًا لاحقًا، وطريقة تعاملها هاديء النبرة مع بقية الفتيات اللاتي يشاركن إياها السكن تحت سقف واحد، واللاتي كن يتمتعن بدهاء وحيلة تفوقان ما لدى إيليش، وهو ما تبدأ في اكتسابه تباعًا.
بعد قرابة نصف ساعة من سطوة الأخضر، تدخل إيليش في مرحلة مختلفة تمامًا من حياتها تميل فيه جميع ملابسها نحو اللون الأحمر بمختلف درجاته، وهو ما يمهد له جون كرولي بمشهد فاصل لإيليش مقدم بتصوير بطيء وهى ترتدي معطف وغطاء رأس تدب فيهما الحمرة، واضعًا هذه اللحظة كمفتتح للمرحلة الجديدة التي تبتعد فيها أكثر عن طبيعتها الأولية لتترك نفسها منقادة وراء عواطفها، حيث تقدم إيليش على الدخول في علاقة عاطفية، ومع شخص يقع خارج مجتمعها المتكفي بنفسه بالكلية، وهو الأمر الذي تفرضه طبيعة الحياة المنفتحة في أمريكا فيما يتعلق بالمهاجرين الذين يشكلون قوام سكانها.
أما في الثلث الأخير من الفيلم، فكانت البطولة هذه المرة للون الأزرق الذي بدأت علاقته معها قبيل عودتها مرة أخرى إلى أيرلندا لزيارة والدتها، مترجمًا الشعور بالحيرة والتراوح بين تقلبات الأمواج في القرار، حيث نراها ترتديه ملابس زرقاء للمرة الأولى حينما يخبرها حبيبها الإيطالي بخططه المستقبلية معها أمام الأرض الخضراء المتسعة أمامهما في حين أنها مشغولة بالتفكير في الاختيار بين الاستقرار في أمريكا وبدء حياة جديدة مع حبيبها أو العودة مرة أخرى إلى أيرلندا.
وحتى بعد العودة لأيرلندا، يستمر هذا الخيار في الألوان كدلالة على عدم القدرة على حسم القرار، خاصة مع إخفائها خبر زواجها عن الجميع حتى والدتها والتحاقها بعمل جديد لا تعرف حتى الآن إذا كان سيكون دائم أو مؤقت، وتعرفها بعد عودتها على شاب آخر وارتياحها الشديد له ليدخل في دائرة مقربة منها بدون أن يعني ذلك التوحد التام، وهنا يظهر في الأفق لون جديد في الملابس وهو اللون الأصفر الذي لم ترتديه سوى في مناسبات قليلة، ومع أشخاص مقربين بحكم القرابة العائلية أو بحكم وحدة الأصل، ولكن لأنها كانت تعلم في قرارة نفسها أنه أكثر من مجرد شخص مقرب، وأن مشاعرها نحوه حقيقية، نشاهدها هذه المرة معه بالأحمر مجددًا في حفل زفاف صديقتها.
ولأن لحظة حسمها لكافة الأمور المعلقة كانت آتية لا ريب فيها، تأتي هذه اللحظة مع التخلي تمامًا عن سلطة جميع الألوان السابقة، بل وجميع الألوان في الطبيعة كذلك، ليكون الأبيض بحياده التام هو صاحب الكلمة الأولى في مشهدين متتاليين تصرح فيه بما لم تصرح به منذ قدومها لأيرلندا، لتخرج من هذه التجربة أكثر نضجًا وأكثر حسمًا وأكثر استعدادًا لما لم تكن على استعداد له من قبل.
إذن يثبت هذا الفيلم من جديد القدرة الفائقة للون على سرد ما يصعب ربما سرده شفاهيًا، بل وينجح في تقديم سرد متوازي مع السرد الحكائي والسرد البصري، كمثل سيمفونية تستعيض عن النغمات والحركات الموسيقية باﻷلوان على غرار سلسلة لوحات ويسلر الشهيرة ( link)، هادفة إلى ترجمة المشاعر التي قد لا نوفق دومًا في التعبير عنها، لكننا نشعر بها.