ضمن أسبوع أفلام جوته، الذي بدأت فعالياته مساء الخميس بمركز جوته بوسط القاهرة، كان الموعد في أول أيام هذا الأسبوع مع العرض اﻷول في مصر للفيلم القصير المنتظر حار جاف صيفًا للمخرج شريف البنداري والكاتبة نورا الشيخ وبصحبة محمد فريد وناهد السباعي في اﻷدوار الرئيسية.
في مفتتح الفيلم وفي خواتيمه كذلك، هناك لحظة تتكرر مرتين يسيطر فيهما الصوت الفوقي ويطغى على الصورة مع اختلاف الهدف في المرتين وثبات طريقة الاستجابة من عم شوقي "محمد فريد"، ففي المرة الأولى يقوم الابن بإعطاء التوجيهات اللازمة ﻷبيه الذي يعاني من سرطان القولون والذي سيتوجه لزيارة طبيب ألماني زائر في سبيل البحث عن أمل في التعافي.
أما في المشهد اﻵخر، فالصوت الفوقي هذه المرة يأتي من قبل الطبيب اﻷلماني الذي يفحص اﻷشعات الخاصة بعم شوقي لكي يقف على مدى خطورة حالته، لكننا نعرف من حديثه باللغة الإنجليزية مع الطبيب المصري أن عم شوقي حالته سيئة ﻷقصى درجة، بل إنه حتى لا يعرف كيف بقى على قيد الحياة كل هذا الوقت مع عدم جدوى العلاج الكيميائي.
الصوتان السابقان يجتمعان في شيء مشترك، وهما أنهما يحاولان كلاهما وضع حدود لمسار حياة عم شوقي، الأول يعطيه مجرد تعليمات جافة عما يجب اتباعه في الطريق/الرحلة إلى الطبيب وما سيصطحبه معه كزاد لهذه الرحلة - زجاجة مياه مثلجة والتحاليل واﻷشعات السابقة-، والثاني يضع حدًا تقريبيًا لحياته وفقًا للمعطيات وإلى أي مدى ستستمر حياته مع جدية حالته الصحية.
وعلى مدار هذا اليوم الطويل، يبرز دور زجاجة المياه المثلجة وعداد سيارة اﻷجرة كمؤشرات حيوية/رقمية على سيرورة اليوم/الرحلة، أولهما يأخذ في التناقص والثاني يتزايد، اﻷولى هي الزاد اللازم لمواصلة الرحلة، والثانية هي التكلفة اللازمة لاستكمالها حتى النهاية، وهذان المؤشران مع التوكيد البصري عليهما من قبل المخرج يرسمان لنا معطيات غير مباشرة عن مسار اليوم مع ما نعرفه فعليًا عنها من الصوت الفوقي سابق اﻹشارة إليه أعلاه، ليشكلا معه كل إحداثيات الرحلة.
ولكن بالطبع لا تسير جميع الرحلات على نفس القدر من السلاسة، فقد يصادف المرء كثيرًا ما يعطل المسار أو يؤخر هدف الرحلة عن موعدها بفعل القدر، ويأتي القدر هنا ممثلًا من خلال سيدة شابة تستعد لحفل زفافها في نفس اليوم، فيتقاطع طريقها مع طريق عم شوقي، وتتمازج مساراتهما حتى مع اختلاف الوجهة النهائية لكل منهما، اﻷول باحثًا عن أمل أخير قبل الاستسلام للمصير المحتوم، والثانية نحو بداية تأسيس حياة جديدة في مقتبل العمر.
تتمازج مسارات عم شوقي والعروسة من خلال حدث قدري وغير مقصود بفعل ضغوط يوم كل منهما وبفعل العوامل الخارجية مثل الزحام والتكدس المروري وارتفاع درجة الحرارة، والحدث هو انتهاء حقيبة عم شوقي الحاملة للأشعات والتحاليل -وهى أداة الرحلة- في يد العروسة، التي ظنتها واحدة من أكياسها التي تحمل من خلالها حصيلة يومها الطويل قبل حفل الزفاف.
هذا الانحراف غير المقصود عن مسار الرحلة يمنح العم شوقي "أوديسته" الموجزة الخاصة - إن جاز التعبير - للبحث عن الحقيبة، بما يمنحه مشاهدات ومفارقات لم يكن ليحصل عليها في مساره الرتيب لولا هذا الخطأ من قبل العروسة - الخياطات وصالون التجميل وستوديو التصوير والزفة-، مما منحه شيء يستحق التذكر عندما يعود لمنزله في نهاية اليوم/الرحلة، حتى لو كان هذا الشيء لحظيًا، لكنه تحول إلى لحظة مشتركة بين الشخصين الغريبين لن يدرك كنهها سواهما، وهو ما يتجلى من خلال انتهاء الفيلم بنسختي كل منهما من صورة الزفاف بعد مرور وقت طويل على هذه الرحلة، بعد أن صارت العروسة أمًا لطفل وتنتظر الطفل الثاني، وبعد أن عاش عم شوقي وقت أطول مما توقعه الطبيب اﻷلماني.
شريف البنداري في فيلمه الجديد لا يقدم لنا على مدار النصف ساعة مجرد يوم في حياة شخصين، بل يقدم تناصًا وجيزًا لرحلة الحياة ذاتها، والوحدات الصغرى التي تتألف منها والتي تنتهي إليها، قد يذهب أغلبها في طي النسيان، لكن القليل الذي يستحق التذكر سيبقى حتى لو من خلال صورة وحيدة مثل التي ينتهي بها الفيلم.