بدأ موسم المسلسلات الرمضاني المعتاد كل عام، وعاد معه الانبهار الهستيري في الـ"فيسبوك" وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي من نوعية "هييييح" و"يا دين النبي.. إيه الحلاوة دي"، كما كان يقول سعيد صالح في مدرسة المشاغبين، أو"عبقرية الممثل الفلاني أو الممثلة الفلانية عاملة لي دماغ"، أو "فلانة قالت النهاردة في المسلسل: ما تسيبنيش يا برعي: وجع!".. فهي مبالغات لا أفهمها، فأين تكمن العبقرية في أن يؤدي ممثل دوره المنوط به أن يؤديه؟ أليس هذا عمله؟
إنني لم أر بصراحة في أداء أي من الممثلين سواء هذا العام أو الأعوام الماضية ما يمكن وصفه بالعبقرية كبعض أداءات نجوم السينما العالمية والمصرية السابقة في أفلام شهيرة وعبقرية بالفعل. ويبدو أنه بعد أن كثر الممثلون و"رطرطوا" في القنوات الفضائية، خافت القنوات على مصالحها إن تم حرق هؤلاء، فكثفت الدعاية واستضافتهم في جميع البرامج التي تعاد عشرات المرات، فعاد إليهم بريقهم الذي كان قد أوشك على الخفوت، فيبدو أنها مجاملات من بعض الكتاب والمثقفين لأصدقائهم الممثلين والمخرجين على أمل أن يحظوا بكتابة سيناريو لهم في السنوات القادمة، وهم لذلك يعلنون انبهارهم بهم جهارًا نهارًا، وبعض المثقفين يحسب ذلك الانبهار وتلك المبالغات نوعًا من الثقافة والتذوق الفني ودليلًا على العمق والفهم، مثل الفكرة المنتشرة في الـ "فيسبوك" بأنك ينبغي أن تشرب القهوة وتستمع إلى فيروز وتقرأ محمود درويش كل صباح وإلا فلست بمثقف عميق! وكأن الاستماع إلى ليلى مراد مثلًا أو قراءة المتنبي تعني أنك مثقف تافه، فقد صارت هناك أنماط محددة يتم الترويج لها بشدة في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي يفقد التنوع المطلوب قيمته، بينما هو الهدف الأساسي من هذه الوسائل، ولا شأن لنا بذلك كله فكفانا مبالغات ومجاملات ولنحاول أن نضع الأمور في نصابها الصحيح.. فالفن يبدو في حالة عدم اتزان هذا العام ما بين الهبل والاستهبال والاقتباس والاستسهال.
فمسلسلات هذا العام أغلبها في رأيي "خانكة" حقيقية مثل عنوان إحداها، فهم يلعبون على المضمون منذ ظهور حالة الانبهار الرهيب المبالغ فيه بأداء نيللي كريم للأدوار التي تتطلب أداءًا نفسيًا صعبًا، ومنذ ظهور حالة الانبهار تلك صار هناك سباق محموم بين المسلسلات على إظهار الحالات النفسية المرضية باختلاف أنواعها، ويبدو أنهم يلجأون لأطباء علم النفس بعد أن اكتشفوا أن الحالات النفسية والشرود والتحديق في الفراغ يأتون بنتائج جيدة مع الناس، وإن لم تصرخ انبهارًا بها فأنت لست عميقًا، ويبدو أنهم قرروا أن يعرضوا كل عام حالة من حالات المصطلحات الطبية في عالم الطب النفسي وكل سنة سيعملون على حالة نفسية معينة، كويس وقد نجد أنفسنا بعدها أطباء علم نفس ونمتلك بعض المصطلحات العلمية.
والاقتباسات تتصدر بعض المسلسلات: أفراح القبة مقتبس من رواية نجيب محفوظ، وجراند أوتيل مقتبس من مسلسل إسباني كما تقول صفحات النت، وونوس كما يقال تنويعة على قصة فاوست الشهيرة، شاهدت منه مشهدًا فوجدت من يسأل يحيى الفخراني: هل أنت مؤمن؟، فأجاب: أنا مؤمن بنفسي، أليس هذا الحوار هو نفسه الذي تكرر في عشرات الأعمال المقتبسة من نفس القصة ومنها أفلام مصرية كسفير جهنم وموعد مع إبليس؟ ما الجديد الذي يمكن أن يُقدم في هذه القصة التي قُتلت وطُحنت في مئات الأفلام الأجنبية والمصرية؟ بغض النظر عن أداء يحيى الفخراني المتمكن دائمًا من مفاتيح كل أدواره.. ولكن أيكفي هذا التمكن لإحياء قصة قُتلت بحثًا وعرضًا؟
ويبدو أن العرض الحصري سلاح ذو حدين، ففي كثير من الأحيان لا يتمكن المشاهد من رؤية مسلسلات العرض الحصري كما حدث هذا العام لمسلسل "شهادة ميلاد" للممثل المجتهد الموهوب طارق لطفي الذي لم يتمكن الكثيرون وأنا منهم من متابعة مسلسله الذي قيل إنه بذل جهدًا كبيرًا في تصويره، ربما يكون للمسلسل فرصة أخرى في العرض بعد رمضان.
مسلسل هي ودافنشي لا بأس به حتى الآن وإن كان أقل من المتوقع، ليلى علوي متشنجة قليلًا في بعض المشاهد، كما أن تحولها الغريب المفاجيء في أحد مشاهد الحلقة الرابعة من محامية شريفة إلى محامية مستغلة تلعب بالبيضة والحجر كان غير مفهوم، وعمومًا فالنقلات الدرامية في المسلسلات سريعة وغير مفهومة، هذا إن لم تفسرها الأحداث فيما بعد.
وهذه انطباعات عامة سريعة عن بعض الأعمال التي شاهدتها حتى الآن:
أفراح القبة كما كتبها الرائع نجيب محفوظ، تشبه في بنيتها الظاهرية فقط بنية "ميرامار" من حيث أن كل شخصية تحكي ما حدث من وجهة نظرها هي، ولكنها في جوهرها تقترب من روح فيلم "الاختيار" الذي كتبه أيضًا نجيب محفوظ وأخرجه يوسف شاهين، فهي تنويعة على نفس الفكرة حيث الصراع العارم المحتدم ما بين رغبات الكاتب أو الفنان الحقيقية والدفينة في أعماقه وبين الهيئة الأخلاقية المحافظة التي ينبغي أن يظهر بها أمام المجتمع، والتي يطالبه المجتمع بأن تتصدر روح أعماله الفنية، بينما هو يريد أن يطلق في أعماله الفنية أقصى رغباته الدفينة مهما كانت شريرة أو غير مسموح حتى التفكير فيها، وكيف يمكن أن يتحول إلى مدان بقوة إذا ما حاول إخراج هذه الطاقات الدفينة من محبسها كالعفريت من القمقم، كما أن "أفراح القبة" كما كتبها محفوظ لا تخلو من تلك السخرية المشابهة لسخريته من تناقضات المجتمع والحياة التي بدت ظاهرة في "ثرثرة فوق النيل"، فأفراح القبة ليست لغزًا بوليسيًا بقدر ما هي تشريح لنفس الكاتب أو الفنان ودائمًا ما ينتهي ذلك لدى نجيب محفوظ باتهام المجتمع للكاتب بالجنون أو بارتكاب الجريمة فعليًا.
لم تبرز هذه الفكرة حتى الآن في أحداث مسلسل أفراح القبة، الذي أراه حتى الآن يبدو في صورة لغز بوليسي بطيء الإيقاع، لو كنت مكان مخرج العمل محمد ياسين أو الكاتب الموهوب محمد أمين راضي، الذي اعتذر عن استكمال كتابة الحلقات بعد أن كتب أكثر من نصفها وأكملت كتابتها نشوى زايد، لو كنت مكانهما لجعلت الإيقاع أكثر سرعة وسخرية، ولكن ما زالت الحلقات لم تكتمل ولو كان لدى طاقم العمل المزيد في جعبتهم كإضافة لما كتبه محفوظ مما سيظهر فيما بعد – وإن كنت أشك في ذلك - فسأرفع لهم القبعة، فأنا أشك في أن إضافة بعض الشخصيات والأحداث يمكن أن يخدم فكرة المسلسل، فالفكرة الأصلية التي كتبها محفوظ مركزة وواضحة ولا تحتمل كل ذلك، أما إن كانوا يريدون كتابة مسلسل بوليسي يستعرض الأحداث السياسية والاجتماعية لتلك الفترة فلم يكن من الضروري اقتباس قصة محفوظ إذن وكان يمكنهم كتابة نص آخر مختلف.
كملاحظة صغيرة، لاحظت في أيدي ممثلي أفراح القبة دبلًا فضية، وهي على حد علمي لم تكن منتشرة في السبعينات حيث تدور أحداث المسلسل، وكذلك السبحة الكبيرة المعلقة على الحائط كديكور أعتقد أنها لم تكن موجودة في تلك الحقبة أيضًا، فهي أشياء حديثة إلى حد ما على ما أعتقد.
مسلسل شيق ومحكم الكتابة والإخراج والتمثيل حتى الآن فهو مباراة جيدة تستحق المتابعة، أرجو أن يستمر كذلك حتى النهاية وألا يخيب الآمال كما يحدث أحيانـًا في مثل هذه النوعية من الألغاز البوليسية. قرأت رأيًا على النت للزميلة لانا أحمد يقول: "إن المسلسل مقتبس من فيلم seven الأمريكي". لا بأس إن كان الأمر كذلك فالتشابه بين المسلسل والفيلم هو في الخط العام فحسب في أن هناك اثنين من المحققين يحققان في جرائم متسلسلة لقاتل خفي يتحداهما، أما التفاصيل فهي مختلفة تمامًا وشيقة في المسلسل إلى حد كبير.
أيضًا أبدي إعجابي بأغنية تتر المسلسل فهي اللحن الوحيد العالق بذهني والمتكرر عليه بإلحاح من بين كل تترات المسلسلات أو ألحان الإعلانات، تتر جيد كلمات ولحن وأداء، هو أفضل أغنية لتتر مسلسل في رأيي لهذا العام.
أؤمن دائمًا بالفرصة الثانية، ولا أحب الأفكار المسبقة التي تحكم على الشيء من قبل وجوده، ومن هذه الأفكار المسبقة التي خلقها جمهور الـ"فيسبوك": أن نيللي كريم ممثلة عبقرية بينما نيللي كريم في الحقيقة صارت ممثلة جيدة ولكنها ليست عبقرية، وأن درة لا تمثل جيدًا بينما أراها لا بأس بها، وأداؤها لا يقل عن مثيلاتها، وأن إياد نصار فاتن وساحر للنساء وأي كلمة ينطق بها في أي عمل فني هي عبقرية منه. ولا أدري بصراحة من أين جاء كل هذا السحر الذي يتحدثون عنه فهو ممثل جيد فحسب، ولكنه ليس بهذا السحر ولا بهذه العبقرية، هذه الأفكار المسبقة تشبه تمامًا ما كان يحدث أثناء دراستي للهندسة المعمارية حيث كان يتم اختيار بعض مشروعات الدفعة الهندسية ليـُكتب عليها كلمة Kept، ومعناها أن الكلية ستحتفظ بهذه المشاريع لجودتها، وبالتأكيد كان الكثير من هذه المشاريع جيدًا بالفعل، ولكن جميعنا كان يعلم أن اختيار هذه المشروعات بالذات كان يتم على أساس الواسطة والمجاملة والأفكار المسبقة، فمن حصل على كلمة kept مرة يحصل عليها بعد ذلك كل مرة مهما كان ما قدمه بعد ذلك متوسطًا وأقل من المتوقع، هذه الفكرة غير العادلة هي ما يسود كل ميادين الحياة بما فيها الفن.
من هذه الأفكار المسبقة المنتشرة "فيسبوكيًا": أن مي عز الدين لا تجيد التمثيل وأن من الأفضل لها الاعتزال، ولا أعرف لماذا كان هذا الحكم القاسي ولكني أظنه نشأ بسبب تقديمها لبعض الأعمال ذات المستوى المتواضع فيما مضى، ولكن ألا يحدث هذا لجميع الممثلين؟ فلماذا نذبحها هي وحدها؟ أنا أراها ممثلة لا بأس بها ومطلوبة، وأرى أن مسلسلها الجديد "وعد" مسلسل جميل برغم أنه لا يحتوي على أفكار لوذعية متحذلقة مثل باقي المسلسلات، بل هو اجتماعي هاديء ومشوق في نفس الوقت، مختلف في كتابته وإخراجه وتصويره، ولا أرى بأسًا في التصوير في تايلاند بدلًا من مصر فهذا هو مزاج المؤلف والمخرج وهو حقهما، فعلى سبيل المثال البعيد بدأ موتسارت حياته الفنية بأوبرا تظهر الحاكم التركي طيبًا ومتسامحًا في فترة كانت فيها النمسا وتركيا في قمة عدائهما، فالفنون مزاج وميل وشغف أولًا قبل أي شيء.
أرى أن مي عز الدين مختلفة ومتألقة في هذا المسلسل، والأكثر تألقاُ منها هو أحمد السعدني الذي كتب لنفسه شهادة ميلاد جديدة فيه، أعجبني المسلسل كنمط هاديء لطيف يلتقط فيه المرء أنفاسه ما بين لهاث الصراعات والقتل في بقية المسلسلات، ويبدو أنه تنويعة على الفيلم القديم "جنون الحب" لـنجلاء فتحي وحسين فهمي، ولكن بشكل جديد وأحداث أكثر تشابكًا بعض الشيء، عمومًا حسنًا فعل المؤلف محمد سليمان عبد المالكوالمخرج إبراهيم فخر باختيارهما لموضوع اجتماعي في خضم هذا الهوس من مسلسلات الأمراض النفسية والسفاحين، ولكني ألاحظ أن إيقاع المسلسل بدأ يهبط قليلًا بعد الحلقات الأولى التي كانت بالفعل لطيفة ومميزة بالرغم من عدم ملاءمة هذه الحلقات الأولى لأجواء شهر رمضان المبارك ولكن العمل الفني يحكم عليه بشكل عام بغض النظر عن توقيت عرضه، وما زال الحكم على هذا المسلسل وغيره مبكرًا.
أرجو ألا يتم ذبح عمرو ياسين بالذات بعد الفشل الذريع الذي منيت به حلقات "ليالي الحلمية" الجزء السادس كما كان متوقعًا، فقد أبدى عمرو ياسين موهبة جميلة في كتابة حلقات مسلسل "نصيبي وقسمتك"، فهو كاتب يعرف كيف يلتقط زوايا إنسانية منسية من الحياة فيبرزها ويبلورها، تمامًا كما يفعل كاتب القصة القصيرة، وليس من المطلوب من كاتب القصة القصيرة أن يكتب رواية، يمكن للكاتب أن يكون أعظم العظماء بكتابة القصة القصيرة فقط كما فعل تشيكوف أو يوسف إدريس أو غيرهما، أما الرواية بتعدد شخصياتها وتعقد مواقفها فهي جنس أدبي مختلف، ولكل كاتب ساحته ومجاله، فليركز عمرو ياسين بعد ذلك على كتابة الحلقات القصيرة المنفصلة الأشبه بالقصص القصيرة فقد أثبت براعة فيها.
أما أيمن بهجت قمر الموهوب بشدة في كتابة الأغاني، فلا أدري لماذا يصر على كتابة الأعمال الدرامية؟ فهو أقل موهبة فيها من كتابته للأغاني سواء في الأفلام التي كتبها أو في ليالي الحلمية، وهو لا يعيبه أن يكتب الأغاني فقط، فقد فعل بيرم التونسي ذلك واكتفى بكتابة الأغاني والأشعار بينما كان معاصره بديع خيري يكتب الأغاني إلى جانب الأفلام والمسرحيات، إلى أن توقف بديع خيري عن كتابة الأغاني واستمر في الكتابة الدرامية، بينما أكمل بيرم التونسي كتابة الأغاني والأزجال ولم يجرب الكتابة الدرامية على حد علمي، فكل يكتشف نفسه شيئًا فشيئًا لكي يركز جهده في المنطقة التي يبرع فيها أكثر من الآخرين، وليس من عيب في ذلك بل هو عين الصواب.
مسلسل أقل بكثير من المتوقع، كتابة وتمثيلًا وإخراجًا، الكتابة عادية ليست شديدة التميز في الكوميديا بل على العكس تتضمن أحيانًا بعض الاستظراف وبعض العبارات البذيئة تلميحًا، مجموعة الكتاب يحاولون إلى حد ما تقليد الروح الكوميدية للفيلم الجميل "سمير وشهير وبهير" ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، وأرجو أن تسلم دنيا سمير غانم الموهوبة في التمثيل الدرامي بأنها ليست موهوبة في التمثيل الكوميدي، بعكس شقيقتها إيمي سمير غانم الموهوبة بشدة في هذا المجال، فلماذا لا يلزم كل مجاله الذي يبرع فيه وساحته التي لا يباريه فيها أحد؟
دأبت شركات المحمول منذ عامين أو ثلاثة على تقديم إعلانات في رمضان كل عام تتسم بالنوستالجيا أو الحنين للماضي خاصة لفترة الثمانينات، وهو استغلال ذكي لاتجاهات شباب الـ"فيسبوك" الذين طالما عبروا عن حنينهم لتلك الفترة التي كانوا فيها أطفالًا بكل مفرداتها الفنية من عمو فؤاد إلى فطوطة إلى بوجي وطمطم إلى بكار وغير ذلك، فهذا الجيل هو الذي أصبح شابًا الآن في مرحلة الثلاثينات من العمر أي القوة المحركة لأي مجتمع، ولهذا جاء اللعب على هذا الوتر من شركات الاتصالات أملًا في جذب عدد أكبر من المشاهدين، كان إعلان العام الماضي "زمن الشقاوة" ربما هو "آخر الرجال المحترمين" في هذه النوعية من الإعلانات فقد كان إعلانًا لطيفًا وذكيًا، أما إعلان هذا العام فقد جاء مسخًا لأوبريت "الليلة الكبيرة" بلا طعم أو روح، وأعتقد أن هذا الكم من إعلانات النوستالجيا ينبغي أن يتوقف وأن تبدأ شركات الإعلانات في ابتكار أفكارًا جديدة طازجة بدلًا من هذا المط في فكرة واحدة بشكل عبثي.
أما إعلان "الدوندو" الشهير الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حتى الآن، فقد فوجئت بكل هذا الهجوم ضده، فحين شاهدته أول مرة لم تخطر ببالي تلك المعاني التي لا يحتملها الإعلان، كل ما خطر ببالي أنه إعلان لطيف وجديد في فكرته وتنفيذه ويتحدث عن شوق الأطفال للبن الأم، فقد فهمت أن كلمة "الدوندو" تعني لبن الأم بدليل أنهم يقولون في الإعلان إن حليبهم هو رقم 2 بعد الدوندو، فماذا يكون هذا الدوندو إذن إن لم يكن حليبًا؟، ولكني فوجئت بأن الناس أدخلوا على اللفظ تخيلات جنسية وفوجئت بحديث الـ"فيسبوك" عن تحرشات لا تنتهي في الشارع بالفتيات بهذا اللفظ الجديد، لا تفسير لهذا سوى أن شعبنا المصري الطيب الودود أصبح شعبًا "متحرشاً بطبعه" لا متدينًا بطبعه كما يقال، فلو تم بث هذا الإعلان على شعب طبيعي لما وجد فيه شيئًا، العيب إذن في شعبنا المتحرش بطبعه أكثر من الإعلان الذي لا أعفيه أيضًا من اللوم، فمن وظيفة المعلنين أن يدرسوا طبيعة من يتوجهون إليهم بالإعلان وأن يراعوا كل الاحتمالات التي يمكن أن تخطر ببالهم، ويبدو أنهم يحتاجون لدراسة الشعب المصري بشكل أدق، وعمومًا حسنًا فعلوا بإعلانهم الجديد عن الزبادي فهو ألطف ولا شيء فيه يمكن أن يثير أمثال هذه الزوابع.
بالمناسبة، سامحك الله يا ماما نجوى فقد اهتزت قليلًا صورتك الجميلة مع بقلظ التي كانت في أذهاننا جميعًا بسبب إعلان الصابونة هذا العام، وأنا لست ضد استخدام العرائس المحببة للأطفال في الإعلانات فهذا لا بأس به، ولكن ينبغي أن يكون هذا في إطار إعلان ذكي وطريف ومبتكر حتى لا تتأثر الصورة الذهنية القديمة لهم، والتي تمثل ذكرى غالية لكل من شاهدوا تلك العرائس في طفولتهم، أعجبني على سبيل المثال إعلان cookie monster أو وحش الكعك الذي يعلن فيه عن أحد تطبيقات الموبايل في قناة دبي، فاستخدام العرائس الشهيرة في الإعلانات يجب أن يكون حذرًا وذكيًا ولطيفًا ومبتكرًا ..
أما أسوأ الإعلانات تربويًا من وجهة نظري فهو إعلان البراميل والأزرار إلى آخر هذه السلسلة، فهو الأولى بالمنع والاحتجاج في رأيي من إعلان الدوندو على سبيل المثال، إذ كيف يكون الحديث عن وفاة الأب بهذه البساطة؟ "الراجل اتشنير" ثم يضحك الابن المعتوه في الإعلان! إنه إعلان سادي يركز في لا شعور الأبناء خاصة صغار السن منهم فكرة الاستهتار بحياة الأب والحمى "والد الزوجة" وغيرهما ممن تشير إليهم تلك الإعلانات، قد يبدو الإعلان كوميديًا بسيطًا، ولكن مثل هذه اللفتات البسيطة ترسخ في وجدان الصغار من حيث لا ندري جميعًا. فأرجو الانتباه إلى مراعاة القيم التربوية في الإعلانات كحب الوالدين والارتباط الأسري واحترام المرأة وما إلى ذلك.
أما برامج المقالب، التي صارت تتفنن في الجنون فمنها من يلعب بالنار ومنها من يقلد داعش، فلا نقول تعليقًا عليها سوى حسبنا الله ونعم الوكيل، فلم تعد هناك أية قيم إنسانية تراعيها الفضائيات في سبيل المال والشهرة، ويكفي أن إحدى ضحايا الحرائق وهي الكاتبة هند عبد الله - التي رفعت قضية ضد أحد هذه البرامج – يكفي أنها تجد بعض السخفاء في الشارع يسخرون من تعرض وجهها الجميل لحريق ويلقون ببعض الكلمات العابثة مستخدمين عنوان البرنامج المشهور. فمتى ننضج ونمنع إنتاج هذه النوعية من البرامج التي تضر ولا تنفع؟
دائمًا حين أشاهد عملًا فنيًا تخطر ببالي هذه الجملة التي قالها فريد الأطرش – أو بالأحرى كاتب السيناريو يوسف عيسى – في فيلم "لحن الخلود": "الناس بيحكموا ع اللحن وهو جاهز.. لكن مش ممكن يتصوروا كان ممكن يكون ازاي".