"أفراح القبة" هو مسلسل مصري مقتبس عن رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، وهي رواية ثريّة جدًا على الرغم من صغر حجمها بالنسبة لروايات نجيب محفوظ الأخرى، الأمر الذي كان يمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة لمؤلفي المسلسل نظرًا لوجوب أن يكون مجموع حلقات المسلسل على الأقل ثلاثين.
تدور أحداث المسلسل في مسرح يملكه "سرحان الهلالي"، الشخصية التي جسدها النجم السوري جمال سليمان، أثناء عرض مسرحيّة "أفراح القبة" تأليف "عباس كرم يونس" - محمد الشرنوبي-، الذي تلصص على حيوات أبطال مسرحيته، ليكتب ما كتب، أي أن الأحداث في المسرحيّة هي نفس الأحداث الحقيقية فقط من وجهة نظر عبّاس.
الجدير بالذكر أن الرواية الأصلية هي عبارة عن نفس الأحداث ولكن وجهة النظر مختلفة، أحيانًا نسمعها من وجهة نظر عباس وأحيانًا من وجهة نظر أبيه "كرم يونس"، الذي لعب دوره الفنان صبري فواز، وأحيانًا من وجهة نظر الممثل "طارق"، الشخصية التي جسدها الفنان اﻷردني إياد نصار، وآحيان أخرى من وجهة نظر "حليمة الكبش" والدة عباس -صابرين-، إلا أن ذلك كان يظهر على الشاشة كأنه نفس الحدث بلا تغيير وكان ذلك أول تحدي فشل فيه أي كان القائم على تفصيلة كهذه.
في البداية أرغب في ذكر عيوب أخرى، كنت أود لو تجاوزها القائمون على العمل، أهمها السرد الأفقي للأحداث، أي أن الأحداث ليست متصاعدة بل أنها تحدث بشكل متوازي، الأمر الذي تسبب بخلط عند المشاهد الذي لم يفهم في بعض الآحيان في أي حقبة نحن وتفصيلة كهذه كونها غائبة في الرواية لم أجد مبرر لوجودها خصوصًا أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها.
ثانيًا: توظيف الموسيقى، فبالرغم من أن موسيقى هشام نزيه عظيمة، إلا أنها كانت تبدأ وتنتهي بعشوائية شديدة، تبدأ في حوارات عادية وتصمت في حوارات محورية، كانت تتطلب شريط موسيقي يثريها.
ثالثًا: إعادة المشاهد بنفس الطريقة بالرغم من اختلاف الراوي، فلا نجد اختلاف في زاوية تصوير المشهد أو اختلاف طفيف في طريقة الكلام أو تغيير بسيط في بعض الكلمات بين المشهد من وجهة نظر "عباس" وبين المشهد من وجهة نظر "طارق" على سبيل المثال، بل يتم إعادة نفس المشهد بدون أي تغيير مما أعطى المشاهد اعتقادًا بأننا نشاهد نفس الحلقة فيصاب المشاهد بالملل، والأهم أنه يضرب عمق الرواية في مقتل بما أن الرواية قائمة على حكي نفس الحدث من وجهات نظر مختلفة وكان يجب أن يظهر ذلك على الشاشة.
رابعًا: زيادة مساحة شخصيات عائلة "تحية"، والتي لعبت شخصيتها النجمة منى زكي، بالرغم من عدم تأثيرهم على السياق سوى لمعرفة أن "تحية" وإن كانت قد خرجت من بيئة مزيفة لكنها استطاعت الظفر ببعض الشيء من التصالح مع النفس.
في المسلسل تدور معظم الأحداث داخل المسرح، إن لم يكن على خشبته ففي كواليسه، كنايةً عن أن الممثلين في الأصل لا يعرفون سوى هذا المبنى، والعاملين فيه أيضًا لا يألفون سواه، يعيشون فيه معظم حياتهم ويشعرون خارجه بوحشة، معظمهم لا يمتلك منزل من الأساس فيصبح المسرح منزله والعاملين به عائلته.
مالك المسرح، يمتلك حياتهم، كلهم واقعون تحت رحمته بشكل أو أخر، يقرر هو كل شيء، ينجح في تدمير حياتهم خارج المسرح لكي يلجأوا دائمًا إليه، فهو يتغذى على احتياجهم له، نجده يغري طارق بالشهرة، ويغري دُريّة بحب الجمهور، ويعشّم تحية بأدوار البطولة ويضرب كرم يونس وحليمة الكبش بابنهم، أي أنه داخل هذا المسرح هو الإله، يجب أن يخرج القرار منه أولًا ليُنفّذ، يتحكم في مصائر كل من وقف على الخشبة أو خارجها.
في النهاية نكتشف أنه إله عاجز في الأساس، وتغلبت عليه الـ"فُتنة" كجميعهم، وسلطته الحالية ما هي إلا بسبب أوهامهم بأنهم يحتاجون إليه، لكنهم في الواقع أفضل حالًا بدونه، وذلك المسرح الذي يظنون أنه نجدتهم سيكون السبب في مقتلهم واحدًا تلو الأخر في النهاية.
ممثل متوسط الموهبة، نكتشف في المنتصف أنه شقيق سرحان الهلالي مالك المسرح، إلا أنه لا يمتلك أي سلطة على أي شخص حتى نفسه، يربط نفسه بـ"تحيّة" لأنه اعتاد ملئ فراغ حياته بـامرأة وليس حبًا فيها، يمتهن التمثيل طمعًا في الشهرة لا حبًا في الفن، هو حبيب نصف جيّد وممثل نصف جيّد وصديق نصف جيّد، وفي السرير هو على الأرجح أيضًا نصف جيّد، يعيش حياته على أمل أن يصبح على القمة لكنه يعيش وربما يموت متغذيًا على هذا الحلم، الذي لن يتحقق، ففي مسرح سرحان لا تتحقق الأحلام أبدًا و"الأفراح" لا تأتي أبدًا.
حليمة الكبش وكرم يونس: هما والدا عباس كرم يونس. يدبر سرحان لزواجهما بعد أخذه لعذرية حليمة بالغصب ليدمر بفعلته هذه حياتهما معًا، يدمر حياتها هي لأنها منذ تلك اللحظة ستعيش بعار أنها لم تصارح زوجها بالأمر مسبقًا، ويدمر حياته هو لأنه منذ لحظة اكتشافه بأمر زوجته سيفقد الثقة في كل شيء، خصوصًا أنه عاش طوال حياته على الهامش، بدايةً بتهميش موهبته من قبل "فُتنة" مرورًا بتهميش رجولته من قبل سرحان، نهايةً إلى تهميشه هو شخصيًا من قبل زوجته، حتى ابنهما الذي كان من الممكن أن يصبح مصدر فخرهم في الدنيا وينقذهم من الفراغ الذي يقتل زواجهما، سرحان لا يتركه لهما، ويبتلع عباس في دنياه هو الأخر، فيؤدي ذلك لأن يكون "كرم يونس" هو أول الملحدين بـ"سرحان"، أول من يزهد بفرصه، أول من يستغنى عن عطاياه، لكنه في نفس الوقت لا يملك الاكتراث الكافي ليتصادم معه، فيعيش كرم بقية حياته راضيًا بكونه على الهامش، زاهدًا في كل شيء بيقين أن كل شيء زائف.
"المفروض إنه مؤلف والمفروض إني أبوه"
يقولها "كرم" ليصبح أول من يدرك إن "أفراح القبة" مجرد سراب، وإن لا وجود للأفراح داخل القبة.
ربته امه ليصبح ملاكًا، إلا أنه نما ليصبح العكس تمامًا، لا شيء ملائكي في عباس، هو محض شرير، يرى الجميع بعين شريرة، يرى امه عاهرة وابوه قواد ويرى كل من تحت قبة المسرح آلات في يديه، لكنهم في الحقيقة أدوات في يد سرحان الذي بدوره سيمرر تلك الميزة لعباس، هو يحمل في يده رسالة كاذبة، مقنّعة ببعض الشيء من الحقيقة لكن في جوهرها كاذبة، لأن كل ما يخرج من فم سرحان هو كذب، وكل وعوده لهم كانت كذب، وإن كان عباس أفضل منهم فهو بسبب سماح سرحان له بممارسة تلك الامتيازات لكنه في الحقيقة ليس أفضل منهم في شيء، بل أنه سيقع في حب "فُتنة" زمانه -تحية- ولكنه حب نهايته موت، شأنه شأن كل مظاهر الحياة والفرحة تحت سقف مسرح سرحان الذي ينتهي كل شيء فيه بالموت.
هي العنصر الأهم في الحكاية لذلك يبحث عنها الجميع، كما قالت في البداية "أنا تحيّة اللي بتدوروا عليها"، لأنها الحقيقة الوحيدة في عالمهم، فبالرغم من ترعرعها في عالم مزيّف بعلاقات مكسورة في جوهرها إلا أنها تنجح في الشعور بشيء حقيقي.
على الرغم من قيام علاقة سنيّة "رانيا يوسف"، اختها بزوجها أشرف شبندي "أحمد السعدني" على المصلحة في الأساس، أي أن أشرف لن يتردد في بيع جسد زوجته لمن يدفع أكثر، وبالرغم من أنها رأت بنفسها أن علاقة ابيها بأمها مكسورة من البداية بسبب أن والدها مغتصب أطفال وميوله منحرفة، وبالرغم من أن أختها عليّة "دينا الشربيني" نالت تعليمًا أفضل منهم جميعًا، إلا أن علاقتها بزوجها قامت أيضًا على حيلة رخيصة منها وامها، وبالرغم من أنها عاشت حياتها في بيئة لا أخلاقية بدايةً بأمها القوادة نهايةً باختها الصغيرة المستعدة لبيع أي شخص في مقابل المال، إلا أن تحية كانت حقيقية في مشاعرها ومع نفسها، نجحت أن تقع في الحب وتتصرف بغريزة الابنة والاخت تجاه والدتها وشقيقتيها المنتمون بدورهم لعالم أصلًا مزيف، يوصم الزيف كل أفراد عائلتها فنجد وجوههم محترقة عدا تحية لأنها كانت حقيقيّة بينما هم زائفون، وكانت العاشقة الحقيقيّة الوحيدة للفن داخل مسرح سرحان بينما هم كاذبون، لذلك كان يجب أن تموت تحيّة في النهاية، لأن لا وجود للحقيقة في أي من العالمين.
بالنظر إلى جوهر العمل فقد كان المسرح يمثل الصراع الأزلي، بين الحقيقة والكذب، بين الموت والحياة، بين المؤلف "الرسول" والممثل "الإنسان"، بين المالك "الإله" والعاملين "البشر"، في النهاية ندرك جميعًا أن التخلص من "فُتنة" لم ينهِ المأساة كما كان يظن سرحان، بل أن فُتنة فيهم جميعًا، فُتنة هي الفاضحة لهشاشة الإله، فُتنة هي الوحيدة التي تمثل تهديدًا حقيقيًا لسرحان، لأن تحية -الحقيقة- يُمكن قتلها بسهولة، أما وعي الإنسان فهو موجود مدى الدهر.
لا يعلم سرحان أن فتنة ستظل تلاحقه في كل زمان ومكان، إلى أن تقضي عليه، لأن الإنسان حر، والبشر أحرار ما إن يدركوا أنهم أحرار، وإن بإمكانهم المغادرة متى شاءوا إلا أنه لنهاية القصة لن يدرك أحد حريته، ولن يقفز أحدهم عن كرسيه صارخًا في وجه سرحان، وستستمر أحلامهم في التحطم ومشاعرهم في الهزيمة، لتصبح "أفراح القبة" نكتة سخيفة يشاهدوها جميعًا فينهارون واحدًا تلو الآخر أمامها.
أود في النهاية مدح الإخراج عمومًا والصورة بشكل خاص، لأنه قلما ما يهتم العاملين بالمسلسلات بالصورة، إلا أن الصورة البديعة في المسلسل كانت بمثابة الغطاء الذي عالج الإخفاقات التي ذكرتها سابقًا.
وفي النهاية شكرًا نجيب محفوظ، وسلامًا على روحك أديبًا وإنسانًا لخلقك عوالم ذُبنا فيها وذابت فينا، شكرًا لمشاركتنا وجدانك ولاختراقك وجداننا، وعذرًا إن لم توفِ أقلامنا حقًك، وإن لم يرقِ إبداعنا لإبداعك.