لا يخفي على أحد تلك العودة القوية للأدب في العقد اﻷخير ليكون واحدًا من أهم الروافد التي يستوحي منها كتاب السينما والدراما التليفزيونية أعمالهم، حتى لم يعد اﻷمر يقتصر فقط على اختيار اﻷعمال الرائجة أو اﻷكثر مبيعًا بغرض اقتباسها، حتى بات لا يخلو موسم رمضاني واحد من مسلسل مقتبس عن عمل أدبي، وكان الموعد هذا العام مع روايتي ساق البامبو للروائي الكويتي سعود السنعوسي وأفراح القبة للروائي المصري الراحل نجيب محفوظ.
وعلى الرغم من صغر حجم رواية "أفراح القبة"، حيث أنها لا تتجاوز المائة وخمسون صفحة لدرجة أنني قد انتهيت من قراءتها في جلسة واحدة، إلا أنها تتمتع بميزتان يجعلان منها عمل صالح للاقتباس للتليفزيون بشدة: اﻷولى هي تمتعها بقماشة عريضة نابعة من زخمها الشديد في اﻷحداث والشخصيات باﻹضافة إلى مرونتها في المعالجة الدرامية بالكيفية التي يراها كاتب السيناريو، أو كاتبي السيناريو في هذه الحالة، والثانية هي تعددية وجهات النظر داخل الرواية لنفس اﻷحداث بما يؤكد بشدة على فكرة "نسبية الحقيقة" التي ستجد لها الكثير من اﻷصداء في أدب نجيب محفوظ عامة كمثل روايته التاريخية "العائش في الحقيقة"، التي تتناول فترة حكم اخناتون المثيرة للجدل من خلال جميع وجهات النظر التي كانت تتنافر كثيرًا وتلتقي أحيانًا.
ومن هذا المنطلق، تنبني بنية المسلسل على فكرة "نسبية الحقيقة" تلك، حيث لا يوجد على اﻹطلاق أي شيء يقيني وقطعي الثبوت بالمرة، وإنما تختلف الرؤية في كل مرة، حيث تأتي المعطيات في كل مرة بنتيجة مختلفة حسب وجهة النظر التي يرى منها البطل ما يحدث أمامه، مثلما كان يرى "عباس" طيلة الوقت أمه كغانية، بينما هي في الحقيقة كانت غير ذلك.
وعلى الرغم من تماشي تدفق المسلسل بالتوازي مع أحداث المسرحية المعروضة على خشبة المسرح، إلا أن كتابي السيناريو يعطيا للأحداث شكلًا لا خطيًا يسمح بحرية تداعي اﻷحداث جيئة وذهابًا بين الماضي والحاضر أو من شخصية ﻵخرى حسب الذكريات المشتركة التي تجمع بينها، كما تسمح بخلق حالة من التذبذب المقصود بين اﻷحداث التي تسمح بتعدد التفسيرات والتأويلات، حيث قد يجد الحدث يتكرر أمامه أكثر من مرة، لكن كل مرة في سياق مختلف وبمعنى مختلف.
ولذلك لم يأتِ اختيار نجيب محفوظ ومن بعده صناع المسلسل للوسيط المسرحي صدفة، حيث يعمل هذا الوسيط دراميًا على تغذية فكرة تعدد وجهات النظر عندما نرى وجهة نظر كاتب المسرحية في مواجهة وجهات نظر أبطالها الحقيقيين، فعباس كرم يونس في النهاية يختار وجهة النظر التي تتراءى له مع كل المعطيات التي تعامل معها طيلة حياته ليبني على أساسها إعادة التجسيد تلك لما حدث، بينما يكون مصيبًا في بعض اﻷحيان، ومتحاملًا في أحيان أخرى، باﻹضافة إلى دخول عنصر الخيال ليكمل ما هو منقوص في رؤيته للقصة وما لم يراه منها.
لكن تلك الرؤية التي يحاول المسلسل تقديمها عن "نسبية الحقيقة" كانت في حاجة ماسة لرؤية متسقة مع نفسها، وهو مع اﻷسف ما لم يعد ممكنًا مع تقدم أحداث المسلسل بسبب الاختلاف الكبير في الرؤية السردية بين كاتبي السيناريو محمد أمين راضي ونشوى زايد والذي بات فائق الوضوح مما لم تفلح معه كل المحاولات.
كان من الواضح أن هناك اتجاهان يتصارعان لكي يفرض أحدهما اﻵخر على توجه المسلسل، اﻷول هو الانطلاق من التحريك التراكمي للأحداث وتكثيف تتابعها بغض النظر عن منطقية بعضها أو اتساقها مع طبيعة شخصياته، وهو الاتجاه الذي يعبر خير تعبير - وهذا أغلب الظن - عن منهج أمين راضي، الذي يحب مراكمة أكبر قدر ممكن من اﻷحداث الدرامية التي قد تسحق أمامها الشخصيات أحيانًا في بعض مفاصل المسلسل، وهو كان واضحًا في تطورات شخصيات عائلة تحية عبده التي اتسمت بحدية شديدة جدًا في ردود اﻷفعال بين خيارات إما بيضاء أو سوداء بصرف النظر عن وجود كم هائل من الرماديات بينهما، وهي نفس المشكلة التي كانت تعاني منها الرواية كذلك.
أما الاتجاه الثاني الذي كان يجاهد ليشق طريقه في المسلسل، فهو الاتجاه الذي كان يحاول اﻹخلاص أكثر للشكل الفني الذي كان يقدمه نجيب محفوظ في روايته من حيث الانطلاق باﻷساس من الشخصيات وليس اﻷحداث، حيث تكرس بعض الحلقات نفسها لتستعرض اﻷحداث من وجهة نظر كل شخصية في كل حلقة حملت هذا الطابع، وهو الاتجاه الذي يأتي -في أغلب الظن كذلك- من نشوى زايد.
إن عدم النجاح في التوفيق بين هاتين الرؤيتين المختلفتين قد أضر بمسار المسلسل في محصلته النهائية بعد بدايته الدرامية القوية التي سرعان ما خمدت مع تزايد حدة الصراع الخفي ذلك بين من ينطلق من اﻷحداث وبين من ينطلق من الشخصيات، مما أدى لتشظي الجهود المبذولة لتعتمد أكثر على أداءات ممثليه وعلى رؤية المخرج محمد ياسين، الذي كان يحاول جاهدًا تقديم رؤية متماسكة لمسارات القصة، فيصيب حينًا ويخفق حينًا.
ناهيك بالطبع عن معاناة المسلسل من لعنة الـ30 حلقة التي طاردت الكثير من مسلسلات رمضان هذا العام، ودفعت ﻹضافة شخصيات أو إضافة أحداث تعيق التدفق السلس للمسلسل، مثل الحلقتان اللتان يقوم من خلالهما سرحان الهلالي وطارق رمضان باستعادة ذكريات المراهقة، أو حلقتي محمود الكومبارس الذي كان شخصية هامشية للغاية في المسلسل وغير ذات أثر في مسار اﻷحداث بالمرة.
وحتى مع كل مشاكل المسلسل، إلا أن المسلسل كان يستحق المتابعة بفضل الجهد اﻹخراجي لمحمد ياسين بفضل استغلاله الدرامي للوسيط المسرحي والمكان في خدمة حكايته المتشابكة والمعقدة، ولعبه عليها لتكون شريك في الحكاية وليس مجرد خلفية لها، بل إننا نصل في النهاية لمعرفة التاريخ الذي يحمله كل مكان (المسرح، شقة تحية عبده، منزل كرم يونس، شقة بدرية، مقام سيدي الشعراني...الخ).
كما رفعت اﻷداءات التمثيلية من مستوى المسلسل ككل، وخاصة منى زكي التي كانت في أمس الحاجة لشخصية متعددة الجوانب كتحية عبده لتقديم كل ما لم تستطع تقديمه من قبل بسبب تقييدها في أطر محدودة وفي أنماط محددة سلفًا من الشخصيات، ولتثبت من جديد قوة أدواتها التمثيلية التي لم تظهر جميعها على هذا النحو من قبل، وهو ما أعتبره أقوى أداء تمثيلي قدمته في مسيرتها الفنية الطويلة.