المبدع هو نتاج عدد كبير من العوامل التي تتعانق مع بعضها البعض لتشكل مجموع التجربة الفنية والإنسانية للمبدع، ومحمد خان بتجربته الثرية التي امتدت لعقود طويلة تمتلك هي اﻵخرى جوانبها الخاصة التي اخترنا التعرض لثلاثة منها:
يبدو أن حس التجوال قد نبت مع محمد خان في جيناته، فكان منذ لحظة ميلاده ﻷب باكستاني وأم إيطالية ونشأته لسنوات طويلة في مصر متجاوزًا للحدود المكانية وانتماءاتها المعقدة، ليصير ابنًا للشرق والغرب معًا، ويختار الانتماء روحيًا ﻷرض مصر التي نشأ بها وجال في كافة أنحائها حتى بات عارفًا ﻷسرارها ومكامنها، ليصير مشروعه السينمائي باﻷساس عن كشف الكنوز المخبوءة في اﻷماكن.
كان التجوال - خارج مصر هذه المرة - هو الدافع الرئيسي والمباشر لكي يعيد محمد خان حساباته تمامًا، مغيرًا قراره لحسن حظنا من دراسة الهندسة إلى دراسة السينما في بريطانيا التي قضى بها قرابة السبع سنوات بتأثير من شاب سويسري تعرف عليه وكان يدرس السينما في بريطانيا.
ومن بريطانيا إلى مصر مجددًا، يبدأ خان مسيرته الفنية من خلال العمل في الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي التي عرفت بـ"فيلمنتاج"، لكنه لا يستمر فيها سوى لعام واحد فقط، ليتوجه بعدها إلى لبنان ليعمل مساعدًا مع عدد من أبرز المخرجين اللبنانيين وقتئذ مثل وديع فارس ويوسف معلوف وفاروق عجرمة.
ومن لبنان إلى بريطانيا مجددًا بعد فقدان اﻷمل في حال السينما ومرارة هزيمة 1967، ليتجه من صناعة السينما إلى النشر، ويصدر كتابين عن السينما المصرية والتشيكية باﻹضافة للكتابة عن السينما قبل القرار بالعودة من جديد إلى مصر في أواخر السبعينات.
منذ تجربته اﻷولى مع الأفلام الروائية الطويلة من خلال "ضربة شمس"، استطاع أن يبقى طيلة مشواره في مقدمة صفوف مؤسسي تيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية خلفًا لتجربة صلاح أبو سيف في حقبتي الخمسينات والستينات، لينطلق في اسكتشاف الشوارع المصرية أينما حل بكاميرته.
لكن ما يجعل محمد خان متفوقًا للغاية عن سائر المخرجين هو محورية الصورة في مشروعه السينمائي ليجعلها هي صاحبة الأولوية في علاقتنا بالمكان، مما دفع الكثير لاتهامه بالاهتمام بالنزعة الشكلية على حساب الموضوع، وهو ما رد عليه بأن الصورة هي أداة السينما الأولى، وأنه لا يمكن للسينما المصرية أن تتحرك للأمام إذا ظل اهتمامها مقصورًا على الموضوع.
وفي نفس الوقت، ابتعد خان دائمًا عن تلميع الواقع، هو لا ينقله حرفيًا ﻷفلامه كأنه يرآه في المرآة، بل كان يختار من عناصر المكان الذي يقع عليه الاختيار ما كان يتسق مع طبيعة حكاياته البسيطة، وهو ما جعل الكثيرين يتهمون أفلامه بأنها تسيء لسمعة مصر.
كان محمد خان قادرًا على التواصل مع كافة اﻷجيال بكل ما كان متاحًا، ولذلك لم يفلت فرصة انتشار المدونات على شبكة الإنترنت حتى دشن مدونته الشخصية "كليفتي" التي أسماها تيمنًا باسم أول فيلم له يصوره بكاميرا ديجيتال في مسيرته السينمائية، ليشارك في هذه المدونة الغنية كواليس صناعة أفلامه وتجربته الشخصية في السفر والترحال وصناعة اﻷفلام والحياة، باﻹضافة إلى حصيلة المشاهدات الشخصية التي احتلت شطرًا كبيرًا من تدويناته.
وبجانب التدوين الإلكتروني، كان خان يحب كذلك الكتابة الصحافية منذ سنوات الشباب، حتى أن مقالاته قد نشرت في عدد كبير من الصحف العربية، منها: القاهرة والقبس والتحرير والدستور والحياة.
وقد وجدت هذه المقالات مجمعة طريقها للقراء في العام الماضي عندما نشرت في كتاب حمل عنوان "مخرج على الطريق"، جامعًا مقالاته التي كتبها في آخر 25 عامًا.