لمن ترعرع منذ الصغر على أفلام ستيفن سبيلبرج وخاصة أفلامه التي تتماس مع عالم اﻷطفال سواء من حيث قصصها أو من حيث اﻷبطال المشاركين بها، كانت هناك حالة من الترقب المحفوفة بالقلق حيال عمله الجديد The BFG المقتبس عن رواية رولد دال فائقة الشهرة، ومنبع هذا القلق يأتي من انخفاض مستوى أفلامه فنيًا في السنوات اﻷخيرة وإخفاقها رغم طموحها الظاهر كما حدث على سبيل المثال مع The Adventures Of Tintin في تحقيق اﻷثر المطلوب، فهل تغير اﻷمر مع The BFG؟
للأمانة، كنت في حيرة من أمري خلال مشاهدة النصف اﻷول من الفيلم بسبب التركيبة البصرية للفيلم التي قد يستغربها المشاهد للوهلة اﻷولى بفضل جمعها بين الحركة الحية واستخدام تقنية محاكاة الحركة مع كافة شخصيات العمالقة مما يجعل الفيلم بصريًا يقف في المنتصف بين أن يكون فيلمًا عاديًا من حيث لجوئه لممثلين حقيقيين وأن يكون فيلمًا من أفلام التحريك.
لكن مع النصف الثاني من الفيلم، فهمت ما كان يرمي له "سبيلبرج" من هذا اﻷسلوب البصري، فالرجل ببساطة شديدة كان ينشد من المشاهد أن يرى هذا العالم الجديد كلية بنفس منظور الطفلة صوفي له، اﻷمر يشبه كثيرًا النفاذ من جحر اﻷرنب للمرة اﻷولى نحو أرض العجائب كحال الفتاة "أليس" في روايتي لويس كارول الشهيرتان.
هذا التباين الشديد بين عالمي كارول والعملاق الودود الضخم يتبدى لنا أكثر حينما يصور "سبيلبرج" عالم "صوفي" في حالة وسط لا هي بالخيالية ولا هي أيضًا بالواقعية، مما يشبه ربما التصورات الديكنزية - نسبة إلى الكاتب البريطاني تشارلز ديكنز - ليس فقط عن عالم الطفولة وإنما لما يتجاوزه حتى لو لم نرى من هذا العالم سوى النذر اليسير في المدينة التي تعيش بها "صوفي" أو في ملجأ اﻷيتام المقيمة به، مع سيطرة الظلام طيلة الوقت على هذا العالم في مقابل اﻹضاءة الغامرة لعالم العملاق الودود الضخم.
وحتى مع اعتيادية الارتكاز على فكرة النسبة والتناسب في تقديم الشخصيتين الرئيسيتين حيث تفاوت أحجامهما الجسدية وتفاوت متطلبات المعيشة وطبيعة الحياة لكل منهما، إلا أن اﻷمر يختلف تمامًا في علاقة العملاق الودود الضخم برفقائه المفترضين من العمالقة الذين يفوقوه حجمًا وسطوة لكنه يتفوق عليهم في سعة الحيلة، لتكتسب فكرة النسبة والتناسب بعدًا جديدًا حين تكون غير مقتصرة على مجموعات مختلفة بقدر ما تأتي كذلك من نفس المجموعة.
إن الوقوف عند حد الفارق الشاسع بين عالمي البطلين ليس هو المنتهى في الحكاية، وإنما يمتد إلى ما يحدثه كل منهما من أثر في حياة اﻵخر، فصوفي الفتاة واسعة الخيال كانت تبحث عن تحقيق لتخيلاتها المكتسبة من خلال القراءة ليلًا، والعملاق الودود الضخم كان ينشد إيجاد حل جذري لمشاكله غير المنتهية باﻹضافة بالطبع إلى الرفقة والمؤانسة، وهو ما وجده كلاهما في اﻵخر.
وربما يعد التتابع اﻷفضل استغلالًا لفكرة النسبة والتناسب على مدار الفيلم هو تتابع زيارة العملاق لقصر ملكة بريطانيا، ناهيك عن كونه اﻷكثر طرافة في تقديمه واﻷكثر تمثيلًا للروح الطفولية للحكاية، فهو يجتهد طوال الوقت في إخراج كل ما عفوي في تصرفات هذا العملاق في مقابل الرسمية الشديدة التي يتعامل جميع من في القصر بمن فيهم الملكة ووصيفتها خاصة لعدم تواجده في هكذا أجواء طوال حياته.
وينجح الحوار الذي صاغته ميليسا ماثيسون في الحفاظ على طفولية الحكاية ﻷقصى مدى مع تقديم أكبر قدر ممكن من اﻷلعاب اللغوية على لسان العملاق التي تجعله لا يقل طفولة في أي شيء عن "صوفي" حتى مع تباين الحجم والعمر، والحفاظ في نفس الوقت على طرافة المواقف التي يقعوا بها مع العمالقة اﻵخرين أو في المواقف التي تجمعهما سويًا.
وللمرة الثانية على التوالي، يوفق "سبيلبرج" في توظيف مارك رايلانس أدائيًا، الذي كان خيار أكثر من مثالي لدور كهذا حتى مع تقديم ملامحه الشكلية كلها من خلال خاصية محاكاة الحركة، لكنه كذلك يقدم أداء صوتي ممتاز يتناسب مع الكم الهائل مع اﻷلعاب اللغوية التي تحتويها جمله الحوارية، كما كان موفقًا كعادته في التعامل مع الممثلين من اﻷطفال في توجيه روبي بارنهيل.
لا أعرف إذا كان هذا الفيلم سيغدو من كلاسيكيكات سبيلبرج أم سيكون من سقط المتاع، فهذا اﻷمر يحدده الزمن وحده، لكن ما أعرفه على وجه اليقين هو أن هذا الفيلم يحمل الكثير من روح الطفولة العذبة التي أحببناها في عدد كبير من أفلام سبيلبرج السابقة.