"Burn Burn Burn".. انثروا رُفاتي

  • نقد
  • 10:20 مساءً - 7 نوفمبر 2016
  • 1 صورة



"حرق حرق حرق"

على مقياس النسبية، يقولون أنك خلال لحظات الفرح تشعر بأن الوقت قصير جدًا وأن اللحظات تمر سريعًا كوَمض برق، بينما تشعر خلال لحظات الحزن والألم بأن الوقت بطيء للغاية وأن اللحظات تمضي كسلحفاة تترنح. الزمن ثابت لا جدال، ولكن شعورك به يختلف وفقًا لتقديرك ولِمَا تتعرض له من ظروف، فطفل أمضى نهاره لعبًا لن يشعر بأي إهدار لوقته وسيقنع بأنه ظفر بكل متعة الدنيا، ولكن المعيار نفسه قد يختلف مع شاب أمضى نهاره في اللعب، حَد أنه قد يشعر بالذنب على ما أهدره من سويعات كان يمكن الاستفادة بها. حتى أنك قد تلمح أغلب من تجاوزوا الثلاثين من عمرهم، لا ينفكوا عن نصحك بألا تُهدر لحظة من عمرك دون جدوى، فاللحظة ثمينة وشعورك بها سيختلف فيما بعد، وأن معيارهم تغيّر تمامًا عندما تجاوزوا ثلاثينهم، فأمست كل لحظة مُهدرة في عمرهم الفائت بمثابة صفعة ندم على وجوههم، فقد أضاعوها ولن يستردوها من جديد.

ستختلف الآراء ويختلف الشعور، وقد يضعون الكثير من المقاييس التي تحاول تقريب الأمور لما يراودهم عن شعورهم باللحظة وتبايناته، لكن تصوّر معي، لو كان هذا هو حال من تجاوز الثلاثين من عمره، وكان إحساسه الغالب هو أنه أهدر الكثير من لحظات عمره دون طائل وأنه نادم على مرورها بهذا الشكل، فما بالك بمَن لم يتجاوز الثلاثين بعد وأدرك أنه سيواجه الموت قريبًا جدًا، وأن الموت قد ينتشله في أي لحظة دون أن يمهله فرصة لفظ كلمة أراد حتى أن يلفظها، تُرى كيف شعوره نحو الأمور التي أراد أن ينجزها في مستقبله، وماذا عن شعوره بأنه لم يكتفِ بالدنيا بعد، وماذا عن لحظات كان من الطبيعي له أن يهدرها وأمسى يبحث عنها لأن الموت لن يمهله غيرها، تُرى هل يشعر بأن الوقت بطيء لأن السرطان يعتصر خلاياه ويصب جام الألم عليه؟ أم يشعر بأن الوقت يهرول لأن الموت يطارده في كل لحظة تمر؟.. ستدرك بسهولة أنه لا مقياس نظري بإمكانه القبض على شعور هذا الفتى.

"دانييل" هو شاب ينضح بالحيوية، خفيف الظل ينثر المرح في أي مكان يتواجد به، منذ أن تقع عليه عيناك تدرك أن له كاريزما لا تُقاوم وأنه قادرًا على إسعادك بسهولة.. يكتشف دان أنه مريض بسرطان البنكرياس، وهو مرض لا يُصيب إلا واحد من بين ثمانمائة ألف شاب في عمره، ويُدرك أن ساعة عُمره الرملية شرعت في تسريب حبيباتها دون رحمة، وأن الموت قد يظفر بروحه في أي لحظة.

"سييف" و"أليكس" هما صديقتاه المقربتان، يقرر "دان" ألا يخبرهما عن مرضه، وأنه لا وقت لإهداره في حسرتهما عليه أو شفقتهما على وضعه أو أي شعور بائس قد يجلبه علمهما بالأمر؛ وبهذا يَعِّد وصيته لهما، والتي يطلب فيها منهما أن ينثروا رُّفات جثمانه ورماده في أربع أماكن مختلفة يعتز بزيارته لهم، تاركًا لهم بعض الفيديوهات الإرشادية لكل مكان مع بعض كلماته لهم، وفي جنازة "دان"، تُشاهدا "سييف" و"أليكس" وصيته، وبين دهشتهما بإخفائه أمر مرضه عليهما وذهولهما لطبيعة وصيته، تدركان - وندرك معهما - أن "دان" أقحمنا في رحلة غريبة لنثر رماده حسبما رغب.

"Burn Burn Burn"، موضوع الفيلم شاعري ويحمل مزيج هائل من المشاعر المتباينة، وقدّمَتاه تشارلي كوفي المؤلفة وشانيا بوتو المخرجة بمنتهى السلاسة والإحكام، فهما لم تُغرِقا فيلمهما في الكآبة المُفرطة والمواقف ثقيلة الوقع، وبذات الوقت لم تُسّفِهَا من قدر موضوعهما أو تَحدّا من وقعه على المتلقي، بل حققتا توازن رائع تُحسدان عليه بفيلمهما، فأنت تحب الشخصيات، وتضحك لبعض ردود أفعالهم، وتبتسم لمواقف يتورطون فيها أو يصنعوها بأنفسهم، تَعجَب لتقلباتهم وتُعجَب بها في الآن ذاته، ثم تبكي حين يعبرون عن دواخلهم، يدهشك جنون الرحلة وتلمسك إنسانية غايتها بذات اللحظة؛ توازن من الصعب جدًا بلوغه، وتبلغاه - المخرجة والمؤلفة - بمنتهى السلاسة والنعومة.

في موقف، تشعر بتفاهة "سييف" وما تقوم به من ترهات، لكنك تحبها وتحب جنونها وربما تنتظره، في موقف آخر تفاجئك بإصرارها على صنع موقف له قيمة، حين تعزم على إيصال العجوز لابنها قرب خاتمة الفيلم. في موقف، تشعر بجمود "أليكس" واصطناعها القوة لإخفاء ما يدور بداخلها، لكنك تحبها وتشعر بها وتحاول فهم هذا الذي يرهقها، في موقف آخر، تحتضنك هشاشتها التامة وتَرِق لكل هذا الذي يفتعل بداخلها وتقاومه هي دومًا. في موقف، تشعر بفظاظة "دان" وعدم اكتراثه بشيء غير إفهام صديقتيّه أن الوقت ثمين، وأن من الجُرم إهداره، فيصرخ على "سييف" - بإحدى فيديوهاته - بأنها ممثلة فاشلة، وأنه يُفضِّل مواجهة الموت عن مشاهدة مسرحيتها، وعليها ألا تهدر وقت أكبر فيما لا يناسبها، ثم يَسِب "أليكس" وينصحها بأن تفصح عن سرها الذي يُرهقها لـ"سييف"؛ فلن يخبرهما أحد بالحقيقة، لكن هو سيفعل لأن الموت يركض خلفه، وفي موقف آخر، يستحوذ "دان" الألم ويُعبر عن حبه، حبه الصافي النقي الذي لن تشوبه أي مصلحة، فأي مصلحة وهو يواجه الحقيقة الأقسى بالوجود، يواجه موته، يخبرهما بأنه يحبهما، وأنه يحب والدته حتى لو أخبرها بعكس ذلك، وأن اللحظة ثمينة والعمر غال، فلا معنى لإضاعته.

كل هذا ينبع من مواقف مختلفة وأسرار احتفظت بها شخوصنا وحالات متنوعة تنتاب أبطالنا، فتنساب لك بسهولة، وتشعر بها تمامًا، تشعر بتفاهة موقف وتضحك، وتشعر بمأساة آخر وتُبكيك، كل هذا من خلال متسلسلة مواقف تمر بيسر، وشخصيات مرسومة بعناية وصدق، فلا تملك إلا الانفعال معهم.

نص الفيلم مكتوب بعناية وحب، يعزف على أوتار متنوعة ببراعة ودون تعجل أو استخفاف، فيمنح كل الأوتار نصيبها من العزف ويحقق توازن مثير للإعجاب، لتترجمه المخرجة "شانيا بوتون" بإتقان مدهش - فتَعجَب أنه فيلمها الروائي الأول - وتقود أداءات تمثيلية ممتازة، نجحت في مَد الفيلم بالحياة والروح.

جاك فارثين يُقَدِّم أداءًا بارعًا في تجسيده "دان"، أنت تشعر بطاقته وحيويته وتعشق مرحه وانطلاقته، وتشعر بالحكمة التي أصقله بها خوفه من الموت ويعتصرك الألم في لحظات تَوَجُّعه، وتخترقك كلماته بأنه يحب أصدقائه وأمه دون أن يُعيقها حاجز بداخلك، يؤدي كل هذه المشاعر في مشاهد معدودة ومساحة ليست بالشاسعة، يؤديها بتناقضاتها القصوى في ذات اللحظات، يقنعك تمامًا ويُضحكك ويُبكيك، رغم أنك تشاهده فقط من خلال فيديوهات مُسجّلة له. لورا كارمايك أيضًا كانت جميلة في دور "سييف"، تنجح في أن تجعلك تحب هذه الشخصية التي تقوم بأي فعل دون اكتراث أو تَحَسُّب للأمور، هي على سجيتها ورعونتها تنطلق، ولورا تؤدي بمنتهى التلقائية اللازمة لمثل هذه الشخصية. وأخيرًا، كلوي بيير في دور "أليكس"، تقدم أداءًا ممتازًا هي الأخرى، فتشعر بمعاناتها التي تدفنها داخلها طيلة الفيلم وتستثير فضولك لأن تعرف بما يدور.

الفيلم جميل وممتع، نصه منسوج بتوازن وإحكام، فتشعر بشخصياته وكأنك ألفتهم منذ زمن، تبتسم في مواقف، وتضحك من قلبك بأخرى، وتذرف الدموع خلال لحظات تنضح بصدقها وثقل موقفها. ستحب الرحلة وتُغرَم بجنونها، ستتمنى أن تبلغ أليكس وسييف غايتهما لأنك أحببتهما، ستحب دان وتفتقده، وستنثر معهما رُفاته.



تعليقات