هناك على الدوام شيءٌ فاتن للغاية عند تأمل لوحات الفنان الهولندي بيتر بروجيل، وعلى رأسها لوحته الشهيرة "صيادون في الجليد" التي تعود لعام 1565، هذا الشيء لا يتوقّف لدي على مجرد تصويره اﻵني لمشاهد يومية من الطبيعة الريفية والقروية، ولا على منحه كامل مساحة اللوحة للمنظر الطبيعي المراد تجسيده، بحيث يصير العنصر البشري جزء متألف مع الجو العام وليس هو الصانع للحدث في اللوحة أو بطلها، وإنما نجاحه باﻷساس في خلق حالة من التآلف بين من يشاهد اللوحة وبين موضوعها وذلك لشدة التجريد الذي تحملها لوحات "بورجيل" وعمومية مظاهرها الطبيعية التي لا تبدو غريبة للعين بعد اﻵن مع طول التوقف أمام اللوحة.
هذه الحالة من التآلف البصري مع المحيط الطبيعي للأحداث يخلقه بنجاح الفيلم التركي Rauf حتى لو لم يكن المرتكز الوحيد الذي يركن إليه الفيلم، لكنه في الوقت ذاته ضرورة حتمية لتأسيسه، حيث نتحدث هنا عن قرية نائية في قلب الجليد مع بشر ذوي نمط حياة بالغ البساطة استطاعوا مع الوقت تحقيق حالة من التصالح مع هذه اﻷجواء حتى مع قسوتها.
من أكثر النقاط التي تؤكد على هذه النقطة هي تصالح أهل القرية المستمر مع فكرة الموت الذي يلاحق أبنائها دون توقّف طوال أحداث الفيلم إثر المشاركة مع حركات المقاومة، والتي يحرص صناع الفيلم، مؤلّفه ناز كايباسي وسونر كانر، وإخراج الأخير مع باريز كايا، أيضًا مع على عدم كشف المزيد من التفاصيل حولها حتى يحافظون على حالة التجريد الشديدة التي يحرص عليها الفيلم، وحتى لا تصرف النظر بالطبع عن تأمل أحوال سكان القرية، وعدم شغل المشاهدين بتفاصيل مغرقة المحلية قد لا تهم غالبية المشاهدين بقدر ما يصير اﻷهم التوجه نحو ما يمكن أن يكون مُرتكزًا رئيسيًا لكافة المشاهدين على اختلافهم وتباينهم.
ومع وصول الحياة في هذه القرية إلى نمط من الثبات والتكرار يؤكد عليه المخرجان مونتاجيًا من خلال مجاراة الروتين اليومي لحياة القرية في تكرار نفس اﻷعمال اليومية يومًا بعد يوم بالتزامن مع تزايد عدد اﻷموات، كان لا بد من وجود من ينجح في تجاوز هذه الحالة الساكنة، ومن سيكون أفضل لهذه المهمة أكثر من طفل لا يعي بعد كل ملابسات الحالة وما تسبّب بها، والأهم كونه ببساطة يقوم باسكتشاف عالمه الصغير ذلك من منظوره.
هذا التجاوز الذي يصنعه المخرجان لعالم الطفل "رؤوف" ينبع من نفس العالم اﻷكبر الذي يعيشه الكبار، لكن مع فارق بارز، مكمنه أن الخيال الطفولي يجد متنفسه من نفس تفاصيل هذا العالم بدون أن تكون دخيلة عليه أو غريبة عليه، كما أن التكييف البصري يراعي هذه النقطة جيدًا، فعلى سبيل المثال في مشهد حواري بارز بين "رؤوف" وندمائه، نجد أن الحوار يتراجع تمامًا لشريط الصوت فقط بينما تتصدر الصورة البالونات الثلاثة التي اشتروها، ليبدو وكأن البالونات هي التي تتحاور، وليس اﻷطفال.
مثال آخر بالغ التعبير عن هذا التجاوز يكمن في شخصية خيال المآتة الغريب الذي صنعه واحد من أصدقاء "رؤوف" ويتم التعامل معه بكونه كيان ذو روح حتى مع كونه مصنوع من بضعة ألواح من الخشب مع صحن معدني، ويتماشى المخرجان مع اﻷطفال الثلاثة لمنظورهم لخيال المآتة حتى حينما يتم مهاجمته من الذئاب ويعتبرونه في عداد اﻷموات، ليقيموا له جنازة حقيقية من وجهة نظرهم بينما قد لا تعدو للكبار مجرد محاكاة طفولية للجنازات الكثيرة التي شهدوها.
لكن ﻷن الخيال الطفولي طموح للغاية ولا يقنع دومًا بما يراه أمامه فحسب، تشتعل مخيلة "رؤوف" أكثر فأكثر حول اللون الوردي الذي يسمع عنه ﻷول مرة بفضل "زانا" التي يحبها رغم فارق السن الشاسع بينهما ورغم استحالة تحقق هذا الحب على أرض الواقع، ويتحول التساؤل حول اللون الوردي إلى رحلة كاملة، فيطرق في البداية اﻷبواب المتاحة أمامه، لكن لا أحد يعطيه إجابة شافية، فيبدأ في البحث بنفسه سواء بين تشكيلة اﻷلوان المتاحة لدى أقمشة أمه، حيث تتراص اﻷقمشة الملونة في غرفة مظلمة بلا روح مما يوحي بضيق المتاح في مقابل رحابة المأمول.
أعتقد أن الفيلم قد يجبرك على إعادة النظر مرة أخرى في كل ما قد تراه عاديًا ومألوفًا من النظرة اﻷولى لكي تبحث عما قد يكون غير مألوف، وقد تعود للوحة "بروجيل" التي تحدثت عنها في بداية المقال من جديد لتشرد بذهنك حول قصص محتملة للصيادين في اللوحة أو ﻷولئك البشر السائرين البعيدين في عمقها.