الانتظار مُرهق بطبيعته، مُضجِر في جميع صوره وأحواله، وربما نتفق جميعًا على أنه اختبار مقيت لا نحب المرور به لو أمكننا ذلك، لكنه اختبار لا يمكن تجنبه ما دمت حيًا. فالكل ينتظر، والكل يُرهقه الانتظار؛ بدءًا من الطفل الذي ينتظر إتيان لعبته التي يرغبها، ويضعه انتظاره على جمرة لا يهدأ لها باله، مرورًا بالطالب الذي يترقب نتيجته وقد اعتصره قلقه والتهمه خوفه، أو المُراهق الذي يحلم بطَّلة فتاته الحسناء حين تُقبِل على الصف، وربما أرجحه طول انتظاره لحد اليأس من وصولها، أو العاشق الذي أحرقته نيران شوقه في انتظار محبوبه وأعياه تَوْقه للقائه، أو الأم التي تأمل عودة ابنها الغائب عنها وفاضت دموعها بينما تحاصرها وَحشة الانتظار، حتى الذي ينتظر فرحته، تؤلمه لحظات انتظاره؛ فهو مُرهق ومُضجر ومؤلم بجميع صوره وأوضاعه، وإن طرحت على أحدنا الاختيار، سينتقي اجتناب الانتظار دون لحظة تردد. لكن تظل الحقيقة واضحة بأنه طالما الحياة سائرة فالانتظار موجود.
فيلم The Wait يطرح ثالوث انتظار من نوع خاص، يشمل فيه شخوصه باختلاف مناطقهم ودوافعهم وتباين مشاعرهم، ويشملك معهم كمشاهد في ثالوثه الخاص هذا.. فـ"آنّا" أم فقدت ابنها "جوزيب" للتو، ويقحمنا الفيلم معها في مآساتها منذ لحظاته الأولى؛ فعندما تشهد هذه السيدة الواهنة وقد لفّتها صدمتها وغمرها شعور عدم التصديق، حين تألف كل معاني الحزن الممكنة على وجهها، ستدرك أنها فقدت أثمن ما لديها في الوجود، فهي مكلومة تأبى التصديق بأن ولدها قد ذهب، تشهد مراسم جنازته بعيون خاوية تعجز عن الإدراك، وقلب سيشق ضلوعها صراخًا، هي عاجزة عن إدراك حقيقة الأمر وتخشى أن يلحقها الإدراك، هي تغيب في ألمها حتى أنها تبلل سروالها دون أن تشعر في مراسم الجنازة! أنت الآن تدرك حجم مَصابها، فلست بحاجة لأن تشهد كيف كانت علاقتها بابنها من خلال مقتطفات الفلاش باك أو ذكرياتها عنه أو غيره، فقد ورطّك الفيلم في كَرْبُها دون أن ينبس ببنت شفة.
وفي ليلة الجنازة تتصل "جين" بالمنزل لتسأل عن حبيبها "جوزيب"، فهي اتفقت معه على الإتيان لمنزله لقضاء عطلة عيد الفصح سويًا هناك. تُجيب "آنا" المكالمة وتخبر "جين" بأن "جوزيب" ليس موجود حاليًا، وأنه بإمكانها أن تأتي حسبما اتفقت معه.
تصل "جين" للمنزل بالفعل، وتلمح المُتشحات بالسواد في أرجاء المنزل وهذا الحزن الطاغي على المكان، ثم تلتقيها "آنّا" للمرة الأولى، تلتقي الفتاة التي كان يعشقها ابنها الراحل، ثم تبدأ رحلتها في مراوغة الفتاة لإخبارها عن رحيل ولدها، فهي لن تخبرها عن موته الآن، الأمر مؤلم وهي ذاتها تأبى تصديقه، لا مانع من التعرف على الفتاة أولًا وفهم طبيعة علاقتها مع "جوزيب" وكيف كان عشقهما، بعدها تحين اللحظة المناسبة والطريقة المُثلى لإعلام الفتاة بالأمر.. نعم "آنا"، فلتنتظري اللحظة المناسبة لإعلام الفتاة.
وعلى هذا، "آنا" تخبر "جين" بأن شقيقها توفى، وأن "جوزيب" ذهب لقضاء بعض الأعمال المتعلقة بأمور خالهِ الراحل، وسيعود بعد عدة أيام، تحديدًا في يوم عيد الفصح. وهكذا تُوجِد "آنا" المبرر المنطقي لكل شيء رأته الفتاة في المنزل منذ وصلت، ولغياب "جوزيب" رغم اتفاقه المسبق مع الفتاة، وتخلق لنفسها فسحة زمنية للتعرف على "جين" ومعرفة أنسب الطرق واللحظات لإخبارها بحقيقة الأمر.
يمر الوقت وتتوطد علاقة "آنا" و"جين" شيئًا فشيئًا. تحاول "جين" الوصول إلى "جوزيب" من خلال الهاتف، وتترك له العديد من الرسائل الصوتية، تلومه فيها على أنه لم يُجبها بعد، وأن الشك كان يراودها بأنه سيصفح عنها بعد واقعة الصيف الماضي، ولكن يبدو أنه لن يسامحها أبدًا، هي تنتظره أن يُجيب، وفي انتظارها تتملكها العديد والعديد من الظنون القاسية. وعلى الجانب الآخر، نجد هاتف "جوزيب" بحوذة "آنا" وأنها تستمع لكل رسائل الفتاة، وتدرك رويدًا رويدًا مدى حب الفتاة له، وتتطلع على أسرارهما معًا، فيزداد الأمر صعوبة، هي تنتظر اللحظة المناسبة لإخبار الفتاة، ولكنها تُرجئها مرة بعد مرة، وتُعقّد الأمر عليها في كل مرة.
يضيق صدر "بيترو" - صديق آنا ومدير أمور منزلها - بما تفعله "آنا"، ويواجهها سائلًا إياها عن سبب ما تفعله، لِما لا تُخبر الفتاة بأن "جوزيب" قد رحل، لماذا تراوغها ولماذا توهمها بانتظار ما لَن يأتي، وماذا ستفعل عندما يحين يوم عودة "جوزيب" الذي أخبرت الفتاة عنه، وطالما أنها ستخبرها بالأمر فلِما تأجيله ولِما تُرهق نفسها وتُرهق الفتاة معها. تأتي مواجهة "بيترو" لـ"آنّا" أثناء إعدادها لعشاء تُرحب فيه بالفتاة بدلًا من ترحيبها الفاتر وقتما وصلت الفتاة، فتخبره "آنّا" أنها تنتظر اللحظة المناسبة، ولو أنه لن يقدم المساعدة في العشاء فبإمكانه الرحيل. هنا يُدرك "بيترو" مُبكرًا أن "آنّا" تنتظر ما لَن يأتي هي الأخرى، فهي توهِم نفسها بأن اللحظة المناسبة لإخبار الفتاة لم تأتِ بعد، وأنها ستخبرها حينما تحين تلك اللحظة، وتنتظر هذه اللحظة، وهي لحظة يبدو أنها لن تأتي، فيجمع "بيترو" حاجياته وقبلما يرحل، يذهب ويلتقط هاتف "جوزيب" من غرفة "آنّا" ليتركه بهدوء في غرفة "جين"، سينهي الأمر هو، فلن يترك "جين" تنتظر حبيبها الذي لن يأتي، ولن يترك "آنا" تماطل نفسها في انتظار لحظة لن تحين أبدًا بحالتها تلك.
الآن نلتقط أنفاسنا للحظات، إنه اليوم الذي انتظرته كمُشاهِد منذ بدء الفيلم - يوم عيد الفصح - فأنت انخرطت تمامًا في حالة الفيلم، شعرت بفقدان "آنّا" عزيزها وأحسست بمعاناتها في مماطلة الفتاة لإخبارها عن الأمر، أحببت "جين" وأحببت حبها لـ"جوزيب" وتألمت لها مُسبقًا حين تخيلتها بعد معرفتها بأمر رحيله، أنت تشعر بكلتيهما تمامًا، وتنتظر بشغف لحظة المواجهة، تنتظر أن تُدلي "آنّا" بسرها لـ"جين" وتقولها لها: "جين، من رحل ليس شقيقي، بل هو ولدي جوزيب، حبيبك جوزيب هو الذي مات"، أنت تنتظر هذا وحانت اللحظة التي ينتهي فيها انتظارك.
ينتهي العشاء الحافل الذي أعدته "آنا" لـ"جين"، وتصلان معًا في هذا العشاء إلى أعلى درجات انسجامهما معًا، ثم يحين صباح اليوم التالي، تتوجه "جين" لـ"آنّا" وتسألها عن موعد عودة "جوزيب"، فتخبرها "آنّا" أنها لا تعلم موعد عودته بالضبط، وتطلب منها أن تجلس لأنها ستخبرها سرًا لم تخبرها به من قبل.
ها هي لحظتنا قد حانت، لكننا ندرك ببطء أنها ليست اللحظة التي انتظرناها، "آنا" تخبر "جين" بأن ولدها لن يعود لها، وعليها تجاوزه، فبعد وقعة الصيف الماضي لن يسامح "جين" آبدًا، ولن يعود لها، فليس عليها انتظاره وبإمكانها مواصلة حياتها. تبكي "جين"، أو بالأحرى تنفجر بالبكاء، وتقول أنها تحبه وأنه وعدها بأن يسامحها، فهي لن تقوى على الحياة بدونه، بينما تحاول "آنا" أن تتمالك نفسها وتواصل قائلة بأنه لم يتمكن من مسامحة الفتاة، فعليها أن تتجاوزه وتحب غيره، وبينما تنهمر دموع الفتاة، تُدرك كُمشاهد، أن ثالوث الانتظار قد اكتمل بك، فـ"جين" انتظرت حبيبها الذي لن يأتي، "آنّا" ماطلت كثيرًا في انتظارها اللحظة المناسبة لإخبار الفتاة، وهي لحظة لَن تأتي، وأنت كذلك انتظرت لحظة المواجهة على جمرٍ ملتهب، وها هي لن تأتي.
تتصل "جين" بـ"جوزيب" - للمرة الأخيرة - وتخبره باكية بأنها تكرهه، فلماذا لم يسامحها، ثم تتوجه لغرفتها حتى تجمع حاجياتها، وهنا تجد هدية "بيترو" لها، هاتف "جوزيب" قابع على منضدة غرفتها، تستمع لرسائلها المسجلة على هاتفه، وبقليل من التفكير تترجم الأمور وتصل لحقيقة أن الراحل هو "جوزيب"، تخمل قواها وتجلس على الفراش وقد استحوذتها صدمتها تمامًا، بينما "آنا" تجوس الشوارع لتراقب مظاهر عيد الفصح بروٍح خاوية وغربة عاتية.
تعود "آنا" وتتوجه لغرفة "جين" وتسألها ما إذا كانت لملمت كل حاجياتها، تنهض "جين" من على الفراش وتواجه "آنّا" بأعين امتلأت بخليط غريب من المشاعر امتزج فيه الغضب مع عدم التصديق والشفقة، أنت تنتظر أن تنفجر بها "جين"، فهذا أقل حقوقها - وهو انتظار آخر لِما لن يأتي - لكن تذهب "جين" وتعانق "آنا" عناقًا تودعاه كل ما يُفتعل بداخلهما من ألم وحزن وعدم تصديق، فـ"جين" تبكي على رحيل حبيبها وتتألم لهذه السيدة التي تعانقها، ويلاه! كيف يكون حريق قلبها بعد رحيل "جوزيب". و"آنا" تبكي لرحيل عزيزها ولأنها ستفارق محبوبته وتُجالس وحدتها، تعانقان بعضهما ويعانقهما الحزن والألم وعدم التصديق.. ثم ترحل "جين" لتأخذ "آنا" مكانها على الفراش.
سيرهقك أن تصل لمنطق "آنّا" فيما فعلت، لماذا فضلّت إخبار الفتاة بروايتها الوهمية تلك عن خبر موته، هل لا زالت تأبى تصديق موته مثلًا، أم طمعت في أن تجلس الفتاة معها لبعض الوقت فماطلتها وتطور الأمر لِما وصلنا له، أم أنها أحبّت الفتاة ورأت أن عدم مسامحته لها سيكون أمرًا أيسر بكثير من خبر رحيله عليها. ستعجبك "جين" في أنها لم تُفسِد مخطط "آنّا"، حتى بعد أن علمت الحقيقة فقد سارت معها في دربها إلى النهاية، وشعرت بألمها وحزنها ثم عانقتها عناقًا أودعتها فيه كل تملك من حنان.
الفيلم شاعري، ويكمن جماله في أنه يتركك لتتخيل كل المشاعر التي تراود أبطاله، ويقحمك في حالة انتظارهم على ذات الوتيرة. المعالجة الكتابية للنص المسرحي المأخوذ عنه الفيلم كانت متميزة، وإخراج بييرو ميسينا كان مُحكمًا، واختياره أغنية Missing لفرقة The XX كخلفية لانطلاقة فيلمه وخاتمته كان اختيارًا مُوفقًا للغاية. جوليت بينوش في دور "آنّا" كانت رائعة، تشعر بها الأم المكلومة الفاقدة لابنها، وفي لحظات أخرى تشعر بحماستها مع الفتاة، وفي أخرى تشعر بصراعها النفسي لإخفاء الأمر ومماطلتها حتى لا تخبر الفتاة بالحقيقة، أدت جميع حالاتها ببراعة، ولو دي لايج في دور "جين" كانت ممتازة هي الأخرى، تجعلك تحبها وتسعد بانطلاقتها وتشعر بحنوها، كذلك جورج كولانجيلو في دور "بيترو" رغم صغر مساحة الدور، إلا أنه ترك بصمته وأدى بمنتهى الجودة.
الفيلم جميل، تأسرك حالته وتعيشها تمامًا، حتى لو لم تستطع الثبات على منطق بطلته فيما فعلت، فأنت تنخرط في الحالة تمامًا، تشعر بالشخوص وبما يراودهم في جميع تطورات الفيلم، تنتظر معهم ويُرهقك الانتظار، ثم ترضى بما يحدث، حتى بعد علمك بأنك انتظرت ما لَن يأتي.