Toni Erdmann.. هل ستلعبين معي؟

  • نقد
  • 10:54 صباحًا - 19 نوفمبر 2016
  • 1 صورة



Toni Erdmann

تقوم فكرة الدور الاجتماعي في الأساس على مجموعة كبيرة ومتشابكة من السلوكيات المفترض من أي شخص داخل أي مجتمع بشري أن يلتزم بها وفقًا لموقعه في هذا المجتمع ولعلاقاته مع اﻵخرين و.. لحظة واحدة؟ ما هذا الذي كتبته للتو؟ هل الفكرة بالفعل ثابتة وجامدة بالفعل على هذا النحو؟ ألا يمكن أبدًا أن تكون نسبية في هذه السلوكيات؟ هل من المستحيل التنقل إلى أدوار اجتماعية مختلفة حتى ولو كان بشكل غير مباشر؟ إذن لنتجاوز ما قلته أعلاه.

في الحلقة الرابعة من السلسلة التليفزيونية Dekalog للمخرج البولندي الراحل كريستوف كيشلوفسكي، يقوم الرجل بمسائلة جريئة وأصيلة لثنائية اﻷبوة/البنوة من جذورها البعيدة، وعما يعني أصلًا أن تكون أبًا/أم أو ابن/ابنة، بينما ما تقوم به الكاتبة والمخرجة اﻷلمانية مارين آدي في ثالث تجاربها اﻹخراجية Toni Erdmann فهو شيء مختلف كلية، حيث تقوم بعملية تبديل غير مباشرة وذات حس فائق المرح للأدوار الاجتماعية المفترضة مسبقًا في علاقة أب بابنته.

هناك منظومة ديناصورية متنامية هائلة من الصور الذهنية التي تبزغ أمام اﻷعين مباشرة عما يجب أن يكون شكل وسلوكيات داخل علاقات اﻷبوة/البنوة، لكن الفيلم يتجاوزها بالكامل وبدون حتى أن يعدك حتى كمشاهد للعبة التبديل التي يمارسها الفيلم، فبينما يغدو اﻷب المسن كمثل طفل يتلذذ بممارسة اﻷلعاب الصبيانية متنكرًا في هيئة رجل مسن، تبدو ابنته الجادة البراجماتية التي لا يشغلها سوى العمل كأم ثلاثينية أو أربعينية، وكل التصرفات لناتجة بينهما قد تجعلنا لا نراهما كأب وابنته، بل كأم تجرجر ابنها المشاغب معها مضطرة في كل مكان تقصده.

ومن أجل مسايرة روح هذه اللعبة، ترسم مارين آدي شخصيتي اﻷب والابنة بناء على التفاصيل الخارجية البادية لكل منهما بدون أن يحول كلاهما كأنماط حتى مع قابليتهما لذلك إذا كان النص في يد كاتب آخر لا يدرك الفاصل الرفيع في ذلك عن النمطية، فنعم نحن نرى اﻷب من الخارج رجل مرح ومشاغب وتلقائي واجتماعي ويعشق اﻷلعاب والمقالب، لكنه في القلب من كل ذلك رجل وحيد يفتقد للرفقة حينما يختلي بنفسه، كما نرى الابنة سيدة جادة مدمنة على العمل ترتدي أغلب الوقت ملابس رسمية وتهتم أكثر ما تهتم بمسيرتها العملية التي تستميت ﻷجلها وتتعامل أغلب الوقت مع أغلب الناس بأقصى درجات الدبلوماسية، لكنها في نفس الوقت لا تغلق الباب بشكل كامل أمام أية فرصة للمرح حتى لو جاءت على نحو فجائي أو غير متوقع مثل المشهد الرائع الذي تقوم فيه بالغناء بناء على دعوة من والدها أمام أشخاص لا تعرفهم مما ينسيها وينسينا التوتر الشديد الذي كانت تشعر به.

ووسط كل ذلك، فإن كل ما كان مطمورًا من مشاعر وأحاسيس بين اﻷب والابنة بسبب تباعدهما يظهر دومًا في الوقت المناسب ودون افتعال أو إفراط وجنوح نحو الميلودرامية في إظهارها، ويكون في أبسط الصور الممكنة، فهما هنا ليسا على جفاء على اﻹطلاق حتى لو كانت تشعر بالغضب والتبرم من بعض مقالبه، لكن بالطبع ليس لحد الكراهية، وهذا هو المهم، فكل ما في اﻷمر أن كل هذه المشاعر قد توارت لحساب مشاغل الحياة اليومية للابنة واﻷب على حد سواء.

وتمتد روح هذا اللعب إلى بنية الفيلم وأسلوبه البصري كذلك، فمارين آدي تصنع فيلمًا يبدو من الخارج مفرطًا في أوروبيته إذا جاز التعبير، حيث الكاميرا تكتفي طوال الوقت بالمراقبة دون أن تتخذ أي موقف مع خشونتها وتقشفها الظاهر، والبراح الهائل وقتيًا في تقديم أي مشهد أو موقف، وحيث لا توجد أية موسيقى على شريط الصوت قد تضاعف أية أحاسيس متشكلة على الشاشة، ليبدو الفيلم من الخارج وكأنه مجرد فيلم درامي ظاهريًا.

لكن مع التدقيق الفاحص وتجاوز هذا المظهر الخادع، تكتشف أن هناك بنية خفية للفيلم ليصير الفيلم في قلبه عبارة عن متتالية مواقف كوميدية متنكرة في هيئة درامية، ما أن تفرغ من موقف كوميدي عاصف حتى تجد في ترقب للموقف الجديد الذي سيمارسه اﻷب أو مقلبه الجديد باﻷحرى، كأنك أمام طفل شقي يمكن أن تتوقع منه أية مصيبة في أية لحظة.

لكن أعتقد أن هناك وظيفة أخرى لهذه البنية المركبة، وذلك حتى يمكن السيطرة على متتالية المواقف الكوميدية تلك بحيث تسير بشكل متسق مع الحالة المزاجية للفيلم ككل بدون أن يخل أحدهما للآخر، وهو طبعًا ما يعيدنا للعبة التوازن التي تحدثنا عنها سلفًا، وكونها تحتاج حساسية شديدة جدًا في التقديم، وهو ما نجحت فيه مارين آدي بتفوق لتصنع ربما ما أعده أكثر فيلم مبهج لعام 2016.



تعليقات