قليلًا ما يصادف المشاهد المهتم بالسينما فيلمًا وثائقيًا يتناول حكاية شخصية جدًا تخص صاحب الفيلم ذاته مقررًا أن يشاركها مع مشاهديه وتلمس شيئًا دفينًا فيه إلا إذا توافرت له عدد كبير من العوامل التي تساعد على إيجاد نقطة التقاء بين ما هو خاص بالنسبة لصانع الفيلم وما هو خاص بالنسبة للمتلقي، هي رابطة قد تحدث وقد لا تحدث، وتعتمد باﻷساس على حساسية صانع الفيلم ذاته، وفي حال الحدوث، تنجح المهمة المنشودة.
لذلك لم يكن كل هذا الحماس الكبير والاحتفاء الهائل بالفيلم الوثائقي (هدية من الماضي (20 سبتمبر) للمخرجة كوثر يونس بأمر غريب إطلاقًا، فكوثر كانت تدرك تمامًا بإحساسها ما تفعله، وتدرك من أين يتأتى بالضبط سرد حكاية شخصية جمعت بينها وبين والدها د. مختار يونس لجمهور لا تعرفه.
العامل اﻷول الذي أود اﻹشارة إليه في عمل كوثر هو اﻵنية، الحكاية الرئيسة التي يرتكز عليها الفيلم لم تنتهِ ولم تصر من الماضي ويتم إعادة تقديمها وسردها من جديد بعد انتهائها، بل هي تحدث أمامنا بالفعل، الحدث يتم إنتاجه لحظيًا وآنيًا وفق المسار المفترض والخطة الموضوعة من قبل المخرجة، وحتى مع وقوع أي ظرف طارئ، يتم إدماجه ضمن بنية الفيلم النهائية بشكل مساير ﻵنية أحداثه.
أما ما يشكل عاملًا ثانيًا في نجاح عمل كوثر يونس هو حس المغامرة في العمل نفسه، المخرجة تصنع فيلمها بحس المغامرة في المقام اﻷول، ونحن ننغمس معها على هذا اﻷساس، لا يوجد أحد فينا من الجمهور - ولا هي شخصيًا- يعرف إلى أين ستؤول هذه المغامرة، هل ستؤتي أكلها وينجح الدكتور مختار بالفعل في العثور على حبيبته اﻹيطالية مجددًا بعد أكثر من 30 عامًا أم لا؟ وإذا عثر عليها كيف سيكون شكل اللقاء ورد فعلها أصلًا بعد كل الغياب؟
إنها مغامرة غير معلومة النهاية أو النتيجة النهائية خلال عملية صناعتها وتصويرها مثل مغامرة المخرج اﻹيراني الراحل عباس كياروستمي مع حسين سبزيان الذي انتحل شخصية المخرج محسن مخملباف وقرر كياروستمي نقل قصته في عمله الرائع Close-up.
العامل الثالث الذي ساعد على نجاح الفيلم هو انطلاقه طوال الوقت من تيمات بالغة العمومية مما يسهل على أي متابع تمثلها وابتعاده عن أية صبغات محلية، بداية من رابطة اﻷبوة/البنوة بكل حالاتها المتباينة من أقصى حالات الوفاق إلى أقصى حالات الخلاف، ونهاية بعاطفة الحب، واﻷمل حتى في أقصى حالات انتفاء أسبابه.
العامل الرابع هو جاذبية شخصية الدكتور مختار نفسها، هو شخص ستحب كثيرًا أن تلتقي به في حياتك وأن تتسامر معه، ويتمتع بخفة ظل شديدة وتلقائية اجتماعية تزيده جاذبية، مما يجعل المخرجة تفرد له مساحات هائلة لكي ترصد ردود أفعاله في مواقف شتى.
وأخيرًا يبقى عفوية التقديم هي التي تلضم كل هذه العوامل السابقة معًا، كوثر تحافظ على بقاء روح هذا الفيلم بروح تصوير "فيلم عائلي" في اﻷساس، حيث تصور تحت أية ظروف وبأية زوايا متاحة وبأية عوامل إضاءة إمعانًا في الحفاظ على عفوية وآنية ما يحدث وألا يفسده وجود كاميرا تراقب كل ما يجري، وهذه الروح تذكرني بعمل آخر يستحق اﻹشادة حول إيجاده معادلة قريبة لسرد حكاية شخصية، وهو الفيلم القصير "ذاكرة عباد الشمس" للمخرجة مي زايد.
قد تصادفنا كل يوم حكايات شخصية من عشرات اﻷشخاص الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، لكننا لا نصادف كل يوم حكاية شخصية تحمل كل هذه الطاقة من الحميمية والدفء والقدرة على الوصال مع كل المشاهدين مثل "هدية من الماضي"، وهو هدية بالفعل، ليس للدكتور مختار فقط، بل إلينا جميعًا.