(يُفضل قراءة المقالة بعد المُشاهدة)
لا شك أن الأفلام السيريالية تتسم بالذاتية الشديدة، والتزمت في التعبير عن فكرتها، فهي تعكس رؤية مخرجيها وتحول الصور الحسية إلى مشاهد، أبعد ما يمكن وضعها تحت مصطلح الموضوعية.
فيلم "Swiss Army Man" من أكثر أفلام العام التي إُثير حولها جدل ونقاش واسع، فطبيعته الغريبة كانت موضع اختلاف في الآراء، انتشرت أحاديث مطولة عنه على مجموعات الـ"فيسبوك" المهتمة بالأفلام، ومشاهد تفصيلية ومراجعات على "اليوتيوب" تبسط أحداثه وتستعرض رمزياته الكثيرة. النتيجة كانت المبالغة الشديدة في ردود الفعل، البعض بجلهُ وأعطاه العلامة الكاملة، والبعض الآخر لم يستسغه واعتبره عبث لا يستحق كل المدح والضجة من حوله.
بدون مُبالغات -وبعد نظرة عن كثب للموضوع- الفيلم عبارة عن خليط من المشاعر الإنسانية المتباينة، مجتمعة في قصة ملهمة عن الذات، مُقدمة بصورة مغايرة تمامًا للمعهود وفريدة من نوعها. رسالة قوية عن تقبل وحب المرء لنفسه بكل ما بها من عيوب وأخطاء، وبالتدريج حب الحياة، وإمكانية العيش بشكل سوي في العالم المعاصر الذي تسيطر عليه الشكليات، فهو أشبه بتجربة روحية لاكتشاف الذات مُمثلة في مغامرة مع صديق خيالي.
الفكرة المحورية للنص تتمثل في استخدام الضراط -وهي الغازات التي يُفرزها جسد الإنسان- وتشبيهه بجزء من منظومة جسدية تُطابق التلقائية التي يتعامل بها الإنسان نفسه عندما يكون على سجيته، وبالتالي أفعال الإنسان -المُترتبة على كونه على سجيته- ستجعله متقبلًا ذاته بصورة خالصة، فتركز الفكرة على أن الشكل المُجرد لأفعال الإنسان هو ما يجب أن يكون عليه أمام اﻵخرين، إذ أن هناك علاقة عكسية بين التَصنُّع/الشكليّات التي يكتسبها الإنسان، وبين فعله التلقائي/الفطري الذي يتبعه منذ ولادته، كأنها آلية ثابتة في المُضي، لكن الطريق هنا دائرة.. لماذا دائرة؟ لأنه إذا لم يتبع الإنسان هذه القاعدة؛ لن يستطيع المُتابعة في هذا التَصنُّع للأبد، ولن يكون صادقًا كليةً مع ذاته، وهذا هو المقصود، وحينها سيكون قد دار دورة كاملة ورجع لأول حالة بحُكم تلك الآلية.. سيفقد هذا الإنسان الرغبة بالحياة وسيُفكر بالانتحار ربما. أعتقد أن هذا ما كان مُخرجا الفيلم يُريدا أن يجعلا المشاهد يفهمه منذ مشهد بداية الفيلم، وهو مُفتتح الإعلان الدعائي أيضًا.
كأن فلسفة الفيلم موجزها: "إذا ظل الإنسان يفكر في الشكليات على حساب حقيقة نفسه، أو بمعنى أصح، إذا لم يأخذ الإنسان ذاته في الاعتبار بالمقام الأول، فهذا مُحال. لأن -وببساطة- الإنسان لا يستطيع دائمًا التحكم بما يريده، وأقل تصوير لذلك عدم قدرته على التحكم في إخراج غازاته". بالتأكيد هذا لا يُفسر في الفيلم بتلك الطريقة المتشددة، لكنه كمن يُريد في النهاية أن نستنتج أهمية كون الفرد مُتمسكًا بقيمته التي فُطِرَ عليها. تقديم الفكرة بهذه الطريقة التي قُدمت في الفيلم، قد لا يُحبذه البعض، لكن كما قُلنا الشكل السيريالي هو الطريقة الوحيدة للتعبير عما في رأس صاحبها.
أعتقد أن أغرب فيلم يُمكن أن تتصوره مخيلة الإنسان يومًا، هو فيلمنا هذا في حال قراءة الجمل الحوارية له، قبل معرفة شيئًا عنه. فاستخدام هذه الفكرة لُبًا للقصة هي العبقرية في حد ذاتها، فهذا فعل جسدي لا إرادي تعودنا عليه، لكننا ننكر حدوثه ولا نريد التحدث عنه لاعتقادنا منذ الصغر أنه شيء غير ملائم. حسنًا، ماذا إذا كان هذا تزمت لا إرادي أيضًا؟ فيطلب الفيلم -بلُغته الخاصة- أن يكونا هذان الشيئان على نفس مستوى النظر، أي أنه كما لا يستطيع الإنسان تقييد غازاته، لن يستطيع التعايش مع نفسه وسط اهتمامه الأول بالشكليات على حساب الحقائق، ومن هنا نفهم أن المُخرجين يستخدمان صورة رمزية لمعنى شيء في الشيء ذاته، نسج بين فعل داخلي وخارجي لنفس الإنسان، الأول تلقائي والثاني يجب أن يكون تلقائي.. أو بمعنى أوضح يجب أن يُصدر بدون تقييد. هناك أكثر من طبقة درامية لإيصال ذلك المعنى العميق، لكن المقصود هنا هي الطبقة الأخيرة المكشوفة والواضحة، لا أعتقد أن هناك شيئًا كان من الممكن أن يكون أكثر مصداقية من هذا التعبير.
النص مكتوب بواقعية بالغة، يعكس الحالة الشعورية لكُتابه بصورة مثيرة جدًا للفضول، يتعامل مع شعورك مباشرةً، يستهدف ذلك الجزء المفقود منك، الذي طالما رغب بفعل الصواب بصورته المجردة، لكن الصواب تغير وتقيد وتلون، وبمرور الوقت تغيرنا معه.
طريقة تنفيذ هذه الفلسفة العميقة نراها في علاقة الشخصيتين "هانك وماني" ببعضهما البعض، هذا فيلم يظهر به شخصان فقط طوال الأحداث تقريبًا، "هانك"، والذي يُجسّده الرائع "بول دانو"، يُريد العودة لحياته الطبيعية، ليس حُبًا في الحياة، لكن رغبةً في مقابلة فتاة، و"ماني" عكسه، لا يعرف شيئًا عن الحياة ولم يختبرها يومًا، لكنه ما أن يرى الواقع بعينيه، حتى تبدأ رغبته في استكشاف كل صغيرة وكبيرة به، وفي اختبار كل الأحساسيس الممكنة. لذا، في هذه القصة الخيالية الفانتازية: أهُما وجهان لعملة واحدة؟ أم أن هناك ما لم يظهر بعد بما فيه الكفاية؟
نشاهد في مشهد التمثيل المُصطنع في الحافلة "هانك" يركز على دفع "ماني" لتذكر شيئًا من الماضي، فيتقمص دور الفتاة ويخبره كم هو رائع أن يتحدث إليها في الحافلة، ويتجلى هذا التناقض الشعوري في الحوار بينهما؛ بعدما يوقف "ماني" هذه التمثيلية بمبرر أن الفتاة جميلة جدًا لدرجة أنه لن يستطيع الحديث معها، ويسأل "هانك" ماذا كان ليفعل في موقفه؟ يُجيب عليه "هانك" أنه على الأرجح كان لينتظر حتى تخرج الفتاة من الحافلة، ويذهب إلى بيته ليأكل البيتزا بمُفرده، كنايةً عن كونه شابًا وحيدًا وخجولًا ولا يُجيد التعامل مع الفتيات. في هذا المشهد بالتحديد -الذي أعتبره أفضل مشهد بين الشخصيتين- يُمزج التناقض بين موجات شعورية عديدة: (الصداقة/الوحدة) و(الاعتراف بالحب/الخجل والانطواء) و(الرغبة في الحياة/الرغبة في الهروب منها)، بصورة قوية ومؤثرة دراميًا، وبتنفيذ سينمائي من أروع ما يكون.
شخصية "ماني" مرسومة ببراعة ودقة شديدتين، فلسفته عفوية الطابع، هو شخص راشد غريب الأطوار أقرب للطفل الذي وجد نفسه فجأة في العالم ويُريد أن يفهم لماذا تحدث الأشياء بتلك الطريقة من حوله؟ يسأل حول ما يتبادر لذهنه، لم يتعلم الاستحياء ولا السبيل لفعل ما يريده، ويريد أن يخوض مغامرة الحياة بكل جوارحه. وجاء تقمص دانيل رادكليف للدور بشكل أكثر من رائع، فتعبيرات وجهه كانت مُعبرة جدًا، وطبعه الهادئ انعكس على تعبيراته بمرور مدة الفيلم، يُغني ويتكلم كالصغار، حتى في عناده مع "هانك" يشبه طريقة الأطفال.
أما المُخرجان، فقدّما شخصية تُستثنى من كل أنماط التمثيل، حركات بدنية مدروسة، نصف بشرية وغير اعتيادية، واهتما بأدق تفاصيلها التعبيرية، عمل يستحق الترشيح للأوسكار بكل تأكيد.
لكن بعيدًا عن هذه الرسائل الرمزية والإسقاطات على الواقع التي تسيطر على الفيلم، هناك على الجهة الأخرى صحنًا مليئًا حتى نهايته بالنكات والمواقف الكوميدية، وُلدت من علاقة الشخصيتين ببعضهما البعض على مدار الساعة الأولى من الفيلم، لا يدفعنا هذا لتصنيفه كفيلم كوميدي، لكنه يدفع القصة للأمام، ولا أعتقد أن رسائل كتلك كانت لتُعرض سينمائيًا دون النزعة الساخرة قليلًا، الجانب الأكبر من الكوميديا طغت عليها مشاهد الإيحاءات الجنسية، سواء الشكلية أو الفعلية، التي لا يتردد صُناع الفيلم في استخدامها قط.
الاهتمام بالقصة دائمًا في مثل هذه النوعية من الأفلام -الخيالية الفانتازيّة- يكون بنفس مقدار الاهتمام بالطريقة التي تُخرج بها سينمائيًا، خصوصًا أنها قصة إنسانية بالمقام الأول. تنفيذ الفيلم جاء مذهلًا بحق، الجانب التقني هو العامل الأبرز والأفضل في الفيلم، مشاهد الحركة والمؤثرات الحية/الفيزيائية كانت مهولة، وهي من المرات القليلة التي ظللت أسأل نفسي أثناء المُشاهدة كيف تم فعل ذلك؟ هي لوحات غنائية مونتاجية عظيمة في حد ذاتها، وتناغمها مع التقطيع جاء مُبتكرًا في أكثر من مشهد، ويجعلك ترغب في إعادة مُشاهدته مرة بعد أخرى. أيضًا التصوير جاء بديعًا، خاصةً في مشاهد بيئة الغابة فائقة الجمال بألوانها الزاهية، والمشاهد الصباحية بكادراتها المُختلفة، رؤية واضحة وقوية من مخرجي العمل، فهما يعلمان تمامًا ماذا يريدانه بنفس قدر كيف يفعلانه، قدما وجبة دسمة بصريًا وممتعة للعين إلى أقصى حد.
أتعرفون نوعية الأفلام التي لا تستطيعون تذكر أحداثها إلا بحضور موسيقاها بقوة في الذهن، بعد أن تصبح هذه الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من الأحداث؟ موسيقى فيلمنا هذا ينطبق عليها ذلك تمامًا، شريط الصوت في غاية الإمتاع، تجانس قوي مع كل فصل ذو إيقاع وجو درامي مُختلف، هي ليست موسيقى تصويرية كالمُتعارف عليها، بل أقرب لأصوات، أصوات موسيقية من كل ما يمكن أن تتخيله.
بالتأكيد من شاهد الفيلم يعلم أن النهاية تحتمل العديد من التأويلات، وهو ما جعل البعض يُقول إنها غير "منطقية" وكأنها جزء منفصل عن قصة الفيلم، لكن أكان الفيلم منطقيًا بالأساس؟ الفيلم كله منذ بدايته لنهايته لا يصاحب المنطقية إطلاقًا، كأنه حلم غريب لكنه جميل في ذات الوقت، فضلًا عن أنه ليس من المفترض في السينما بوجه عام أن تكون النهاية صريحة ومباشرة. بالنسبة ليّ لم أستخلص رحلة الفيلم كاملةً إلا بعد فترة من البحث، وعددًا من التوضيحات، ومُشاهدة ثانية، لكنه كفيلم في حد ذاته لا يتسم بالغموض في الأحداث لهذه الدرجة، فهو سهل المُتابعة لكن رمزياته تغلب عليه بشكل كبير. على سبيل المثال لا الحصر، أعتقدتُ بشدة في أول مُشاهدة للفيلم أن قصته ستسلك مُنحنى درامي سوداوي، وتنتهي بفاجعة تُسقط اتهاماتها على الواقع وما تفعله البشرية في وقتنا هذا، لكن ذلك لم يحدث، يمكنك توقع أي شيء من فيلم كهذا!
كل ما قلته توًا عن الفيلم في كفة، والحديث عن مُخرجيه المُبدعين دانييل شاينرت ودان كوان، المعروفان بـ"دانيالز"، هو كفة أخرى تمامًا، يتطلب وحده مقالة مُنفصلة من شدة تميز الطريق الذي سلكاه قبل أن يخرج أول أعمالهما الروائية الطويلة -تأليفًا وإخراجًا- للنور، لكن يكفي القول إنهما حصدا جائزة الإخراج من مهرجان صندانس السينمائي يناير الماضي، وإن فيلمًا بهذا الحجم لم يتعد تصويره 22 يومًا فقط.
هذا فيلم مهرجانات كما يُقال، وقد عُرض بالمناسبة في مهرجان القاهرة بدورته الماضية لكن خارج أي مسابقة رسمية، كل حركة فيه مدروسة بعناية، وكل شيء له معنى مُحدد، فلسفته عميقة، صادم ورائع في نفس الوقت، به العديد من الأشياء التي تجعله أصليًا، ولا يُوضع تحت فئة أفلام مُعينة، هو خليط من هذا وذاك، هذا النوع من الأفلام أصبح مُفتقدًا جدًا في السينما المعاصرة، لا أتصور أحدًا من هواة السينما الحقيقيين يُفوت تجربة بهذه الروعة، صَدق أو لا تُصَدق.. هذه هي السينما!