يظل النجاح هو الغاية التي يسعى إليها الجميع بشتى الوسائل، إلا ان النجاح الحقيقي له مذاق مختلف فهو الإنجاز الذي يتحقق نتيجة عمل قوامه الاجتهاد والعمل الدؤوب والخطوات المحددة المنظمة، أما النجاح الذي يتأتى بأساليب ملتوية أو يتحقق بواسطة أكتاف الآخرين فهو نجاح زائف لن يدوم طويلاً، وإذا ما أردت اقتناص هذا النجاح فعليك بالخطوة الأولى التي لا بديل عنها وهي أن تسير مغمض العينين خلف طموحك، متبعاً ذلك الضوء الخافت النابع من وجدانك، والذي سيكون بمثابة المرشد الأمين ليوجهك إلى باقي المسار الصحيح الواجب عليك إتباعه، وإذا حدث وسقطت في شباك الفشل فلا تضيع المزيد من الوقت في اللوم والندم، فقط انهض سريعاً وامتطي جواد خيالك مرة أخرى ولا تستمع لتلك الأصوات المثبطة للهمم حين تنتقدك بلا موضوعية أو تطلب منك التوقف عن المضي في هذا الطريق زاعمين حرصهم الشديد على مصلحتك، والحقيقة المرَة هي أنهم لا يثقون في قدراتك وبالتالي لا يحبونك، فالحب بدون الثقة ليس له معنى إطلاقًا، لذا لا تلقي بالاً برد فعل الآخرين ومدى رضاهم عمًا تفعل ففي جميع الأحوال لن يتمكن أي شخص سواك من استيعاب حجم قدراتك.
وإذا تمعّنت في سماع تلك الأصوات المحبطة والمزعجة التي تطالبك بالتوقف فستجدها تعود لأشخاص يعيشون بدون أهداف محددة أو لديهم أهداف بسيطة لا ترتقي لطموحاتك الكبيرة أو أشخاص لديهم الموهبة والقدرة على الإبداع ولكنهم لا يفعلون شيئاً حيال تلك الموهبة، أو أشخاص يقتاتون على طموحات أشخاص غيرهم أو ينتظرون من الآخرين تحقيق أحلامهم، أو أشخاص توقف قطار أحلامهم الكبير في أول محطة فشل فلم يكلفوا أنفسهم عناء المحاولة مرة أخرى، ولكن أصعب شعور يمكن أن تواجهه عندما تتلقى هذا الصوت غير المقتنع بما تفعل من شخص قريب من قلبك، تحبه بصدق، بيد أنه يطلق هذا الصوت التحكمي اللعين لأنه لا يمكنه رؤية أهدافك ولا يسعه سماع صوت أحلامك وهذا بالتحديد ما واجهه صديقنا Edward Shefield الكاتب الناشئ الذي كان يحاول في بداية رحلته كتابة روايات يعبر بها عن نفسه إلا أن تلك الكتابات لم ترق لزوجته Susan Morrow ولم تلقَ إعجابها.
يستهل الفيلم أحداثه الشيقة عندما تتلقى "سوزان مورو" طرداً بريدياً من زوجها السابق "إدوارد شيفيلد" والذي أصبح كاتباً كبيراً ليرسل لها في هذا الطرد أحدث رواياته والتي تحمل عنوان "حيوانات ليلية" أو "Nocturnal Animals"، في هذه الأثناء كان يبدو على "سوزان" علامات البؤس بسبب عدم نجاحها في حياتها العملية فضلاً عن المتاعب التي يمر بها زوجها الحالي "Hutton Morrow" في عمله بجانب اكتشافها لخيانته لها، ثم يكشف الفيلم رويداً رويداً عن العلاقة العاطفية الملتهبة التي كانت تجمع "سوزان" مع "إدوارد" أثناء مرحلة الدراسة، تلك العلاقة التي لم تلقَ التشجيع من والدة "سوزان" لأنها ترى "إدوارد" إنساناً ضعيفاً لن يتمكن من توفير حياة كريمة لابنتها لدرجة أن الأم لم تمانع استمرار العلاقة الحميمية بين ابنتها و"إدوارد" لكنها ترفض فكرة زواجهما بشدة، وبسبب التأثير السلبي أحياناً لبعض الحموات على العلاقات العاطفية بجوار المثل القائل "اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لامها"، بدأت "سوزان" تنظر إلى "إدوارد" بعد إتمام زواجهما نظرة الواهم الفاشل، حيث كانت دائمة السخرية من كتاباته والمسار الذي اتخذه في حياته، حتى أنها قتلت طفلتها منه داخل أحشائها قبل أن تخرج إلى النور، لترتمي في أحضان أحد الرجال التي ترى في حياتهم أكثر إشراقًا ونجاحًا.
لا أريدك أن تقلق مطلقًا عزيزي قارئ المقال، فإنني لم أكشف لك إلا عن 25% فقط من أحداث القصة المبتكرة التي تخفي خلفها قصة أخرى مختلفة تمامًا وهي قصة الرواية وكأن الفيلم يقدم لك عرضًا بأنك عندما تذهب لتشاهده ستحصل على فيلم إضافي بالمجان، بشكل عام تم سرد أحداث الفيلم في ثلاث اتجاهات زمنية مختلفة (الزمن الحاضر، الزمن الماضي، الزمن الخيالي)، أما الأحداث الرئيسية التي استحوذت على أغلب المساحة الزمنية للفيلم هي أحداث خيالية مبنية على الرواية المدهشة والمثيرة التي أرسلها "إدوارد" لـ"سوزان"، ويتخلل تلك الأحداث بعض مشاهد من الحاضر والماضي في واقع حياة "سوزان"، وبالرغم من ضآلة المساحة الزمنية لتلك المشاهد إلا انها كانت دقيقة ومركزة لتكشف لنا عن المراحل التي مرت بها "سوزان" خلال زيجاتها، ولكن المدهش هنا أن يقوم "إدوارد" و"سوزان" بتجسيد الشخصيات الرئيسية لرواية "حيوانات ليلية" عندما تتخيل "سوزان" نفسها مع زوجها السابق كاتب الرواية التي تقرأها والتي تحمل في طياتها رسالة غير مباشرة من "إدوارد" إلى "سوزان" مفادها كيف أنه استطاع التغلب على ضعفه بدونها ولكن بواسطة قصة مختلفة وممتعة للمشاهدة.
رغمًا عن المنافسة الشرسة على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دور رئيسي هذا العام والتي لن تخرج وبشكل شبه مؤكد عن Casey Affleck عن فيلم "Manchester by the Sea" أو Denzel Washington عن فيلم "Fences "، أو Ryan Gosling عن فيلم "La La Land"، ورغمًا أيضًا عن التأكيدات العديدة التي تقول بأن Jake Gyllenhaal لن يكون لديه فرصة حتى للترشح للجائزة هذا العام كما جرت العادة رغم تألقه في السنوات العديدة الماضية في أدوار رئيسية هامة ليتوقف رصيده عند ترشح أوسكاري وحيد عن فيلم "Brokeback Mountain" منذ إحدى عشر عامًا وعن دور مساعد، إلا أنني أراه يستحق الترشح بكل تأكيد هذا العام نظرًا للأداء العبقري الاستثنائي الذي قام به عند تجسيده لشخصية "إدوارد" بجانب شخصية "Tony Hastings" بطل الرواية ، أما الجميلة Amy Adams التي تألقت أيضًا في تجسيد شخصية "سوزان" ولكن بدرجة أقل من "جيلنهال" في ثنايا هذا الفيلم، إلا أنها مازالت تؤكد على موهبتها الكبيرة في كل خطوة سينمائية تخطوها لدرجة جعلتني لا أستطيع مشاهدة ممثلة سواها تحصد جائزة الأوسكار لهذا العام ولكن ليس عن هذا الفيلم بل عن دورها الآخر في أحد روائع هذا العام "Arrival".
قبل أن أختم مقالي، أحب أن أوضح أحد أهم نقاط الفيلم الذي أظهر لنا بأن "سوزان" لديها موهبة كبيرة في فن النحت، بيد أنها لم تثق في قدراتها بشكل كافٍ ولم تقتنع بما منحها الله من موهبة وذلك عكس ما يراه الآخرون فيها، فرفضت أن تكون حالمة مثل زوجها واختارت أن تتركه وتذهب لمن ترى فيه الإمكانيات اللازمة لتحقيق أحلامها، ولأن كل إنسان يتحمل مسئولية حياته وتبعات اختياراته فإن النهاية رغم بساطتها إلا أنها كانت محطّمة للقلوب وتستحقها "سوزان" بكل تأكيد.