"مُقتبسًا عن قصة حقيقية".. دائمًا ما تكون هذه العبارة عامل جذب أكثر من غيره من العوامل التي تجذب المشاهد وتلفته لعمل فني ما. الحقيقة، التي أصبحت بمثابة درس يتذوقه المشاهد مرة بعد المرة بشكل مختلف، أصبحت سلاحًا ذو حدين؛ يمكنه أن يُضيف نكهة خاصة، وأن يُشعر المتفرج أن ربما هناك ما يستحق متابعته، أو أن يقف عامل ضد صالح الفيلم، حيث أن هناك غلطة كبيرة يمكن أن يقع فيها المخرجون بسبب ضرورة الالتزام بتفاصيل الحدوتة الأصلية، فالاختلاف بين شكلها كقصة وشكلها السينمائي، يمكن أن يُفسد اﻷمر تمامًا.
فيلم "Changeling"، الذي كان أحد فيلمين أخرجهما كلينت إيستوود عام 2008، يسرد قصة الأم "كريستين كولينز"، التي تعرض ابنها "والتر" ذو التسع سنوات للاختفاء المفاجئ عام 1928 في ولاية لوس أنجلوس الأمريكية، وبعد أربعة أشهر تجده شرطة الولاية ليتبين لنا أنه ليس ابنها، وأن الشرطة تحاول إرغام الأم على تصديق ما هو عكس ذلك، بمرور الوقت نعلم أن القصة تحكي عن صراع غير متوازن الأطراف بين أُم فقدت ابنها، الذي كان يُمثل كل حياتها، وبين كيان سياسي كان وقتها له الكلمة العُليا على الجميع بكافة الطرق الاستبدادية والوحشية.
نظام الحكم في الولاية المتمثل في الشرطة المحلية، يجمع بين كافة صفات القمع والظلم، تحكمه الشكليات والتَصنع وفعل أي شيء ممكن لضمان موقفهم من القضية، تخيل امرأة لا حول لها ولا قوة، مفطورة القلب لضياع ابنها الوحيد، تُقابل بالعديد من القصص المختلقة للتخلص منها، باعتبارها قضية تشكل خطرًا على سياسات هذا النظام غير الشرعية، مشاهد غاية في القوة توضح هذه الحالة من اللامبالاة والجمود الشعوري من قبل الشرطة بآلاعيبها الماكرة وأساليبها الغدارة، فهم ليسوا سوى كائنات مُضطربة سايكوباتية، فقدت احساسها بكونها بشرًا.
في الجهة الأخرى من الصراع هناك أمًا وحيدة مُحطمة نفسيًا وفي أضعف حالاتها، ومع ذلك تحاول بذل قصارى جهدها ﻹعادة ابنها بين أحضانها يومًا ما، وتتمسك بكثير من الأمل. يُقال إن "الإنسان في نعيم دائم طالما لم يتذوق طعم الحياة"، عندما تنكسر شوكته بزوال أغلى ما يملك، هذه الحالة الشعورية تشعرها بشدة في هذا الفيلم. "كريستين" امرأة يغلب على حديثها الصدق والمُباشرة، ولا تعلم غيرهما، البراءة، عندما تُصيبها فاجعة اختفاء ابنها، فتحاول الشرطة إقناعها بطرق مُبتذلة تدعو للسخرية أن من وجدوه هو "والتر" الحقيقي، تجد المرأة نفسها في حالة من الصدمة والاضطراب ولا تتمكن حتى من تقرير ما يمكن فعله. حتى بعد أن تقرر الشرطة وضعها في مصحة للأمراض العقلية، يصور المخرج بدقة حالة هذه المرأة المسكينة، المغلوبة على أمرها، التي تجد نفسها في مواجهة مكان وأفعال تنتهك إنسانية أي شخص، كأنه فأر تجارب، كمشهد صعق صديقتها بالكهرباء بعد محاولة إنقاذها من أيدي الأطباء.
كما قال الرائع عماد العذري في تحليله للفيلم، المشكلة الحقيقة تكمن في الثلث الأخير في نص العمل وإنه: "لا يقف نصيرًا للمُشاهد".. أين التركيز على القضية التي هي عنوان الفيلم بالأساس؟ ولماذا التَطرُّق لأبعاد لا تخدم القصة المحكيّة وتجعلني كمُشاهد أفقد الاهتمام والمتابعة الذي كان جليًا في البدايات؟ ما فائدة أن أعلم التفاصيل المُرهقة لقضية اختفاء الصبي إذا كان ما جذبني في متابعة القصة هو ما سوف يؤول إليه هذا الصراع المُحتدم بقوة بين السلطة ونموذج اجتماعي والذي أساسه قضية "الاستبدال"؟.. حسنًا.. لماذا تم بناء الفيلم على عامل الغموض بهذه الكثافة إذا لم يكن هذا هو المقصود من الفيلم حسب الشكل الذي انتهت به القصة؟.. كان إيستوود محكومًا بالتفاصيل؟ لا أعتقد هذا، من المعروف أنه مُخرج مُحنك ويعرف كيف يسرد القصص وكيف يُحولها إلى معالجات سينمائية جيدة، هذا الهبوط الفُجائي المُحبط في النهاية كان له تأثير كبير في إظهار سلبيات الفيلم، نظرًا لأن الفيلم كان بشكله السينمائي وقصته العاطفية المذهلة من أروع وأقوى ما يكون قبل أن تأتي آخر 20 دقيقة منه.
هناك العديد من الاتجاهات والمناهج النقدية، التي يُمكن النظر من خلالها إلى الفيلم بعيدًا عن النقاط الفنية، فعندما يسأل أحدهم: عن ماذا يحكي هذا الفيلم؟.. يمكن القول إنه يحكي واقع اجتماعي لصراع بين طبقات المجتمع.. وحالة دسمة في هذا النطاق أيضًا لكونه غير متوازن الأطراف يتحول رويدًا رويدًا إلى قضية اجتماعية.. ويمكن القول إنه قصة درامية أساسها الإثارة والغموض من خلال قضية معقدة وشائكة.. ويمكن رؤيته من خلال النظر للاعتبارات التاريخية بواقع أنه جزء من حقبة كانت تحكمها النزاعات وأشكال من الاستبداد للتمسك بالسلطة، مناصفةً مع الأوضاع الاقتصادية في أمريكا.. أو بالمنظور التاريخي لمهمة رجل الدين الذي يتصدى للظلم -القس (جون مالكوفيتش)- وكونه السبب في تحويل قضية "كريستين" إلى الكونجرس الأمريكي ولجنة الاستماع. يمكن أيضًا أن يُنظر إلى الفيلم باعتباره نوع من الحرية في خروج القصة بحد ذاتها للنور ودور السينما -خاصة الأمريكية- في التعلم من الماضي حتى لا تتكرر مثل هذه النوعية من القضايا المؤلمة.. وهذا ما تعترض عليه كثير من دول العالم باعتباره تعرية صريحة لحقيقة لا تتناسب مع سياستها وتفضيل حالة الكبت الفكري/التاريخي للأحداث على الانفتاح.. وأخيرًا يمكن استبعاد هذا كله والنظر من الوجهة العاطفية/التحفيزية بأنه فيلم ذو رسالة بموقف نضال في ظروف استثنائية لامرأة تمسكت بالأمل لآخر لحظة.
فنيًا، أن أكثر ما يستحق الإشادة به هي الموسيقى التصويرية المُفعمة بالمشاعر والأجواء الحزينة/الكئيبة من القصة، رائعة حرفيًا ومن النوعيات التي تعلق بالذاكرة سريعًا وتجعلك تريد معاودة سماعها ليس لتذكر المشاهد التي وضعت فيها فقط، وقد ألفها إيستوود بنفسه خصيصًا لتناسب رؤيته ونوع الحكاية المطروحة. تصميم الأزياء كان موفقًا جدًا أيضًا، والأداءات التمثيلية بالتأكيد كانت بديعة من قبل الجميع، لكن أبرزهم كان من أنجيلينا جولي في دور الأم "كريستين" وجيفري دونوفان في دور الكابتن "جونز"، الشرطيّ الموكل بالقضية.
في النهاية "Changeling" فيلم رائع على مختلف الأصعدة الفنية، وملحمة من المشاعر الإنسانية التي تُحتم النظر إلى عالمنا بشكل أوسع، به العديد من المشاهد القوية التي تعلق بالذاكرة ويعتبر ضمن الكلاسيكيات المميزة للمُخضرم كلينت إيستوود، لكني كنت أتمنى -وبشدة- أن يستمر بنفس وتيرة البدايات التي كانت تُبشر بفيلمٍ إستثنائي في قضيته وأبعادها الغامضة، لكن لا بأس، ليست بنهاية العالم، ما يهم هو التوسع في بناء القاعدة المعلوماتية التي نقابل بها الأفلام كمُحبين ومتذوقين لها، ما يهم هو أن نفهم ونتعلم، تمامًا كما تعلمت "كريستين" من واقعها وغير هذا حياتها إلى الأبد.