على مدار تاريخ السينما المصرية، انتاب غالبية صناع اﻷفلام الكثير من سوء الفهم لروح أفلام الكوميديا الرومانسية، مما جعلها تجنح حينًا نحو الغنائية والاستعراضية، أو حينًا آخر نحو إتخاذ منحى ميلودرامي أو حركي، أو طغيان كاسح للجرعة الكوميدية على حساب الخط الرومانسي في معظم اﻷحايين، مما أبعدها عن روحها كثيرًا وأفقدها طبيعتها الخاصة، ولكن مع حلول نهايات حقبة الخمسينيات وطوال حقبة الستينيات، شهدت هذه الفترة ازدهار كبير للكوميديا الرومانسية ودفعة قوية لها ونتج عنها حصيلة قوية من اﻷفلام مثل التي أخرجها فطين عبدالوهاب.
طوال فترة مشاهدة فيلم (بشتري راجل) الذي يتزامن إطلاقه مع حلول عيد الحب، لم أستطع مقاومة الشعور بأن الفيلم يحمل داخل العشرات من تفاصيله تحية سينمائية واضحة لا يحاول إخفائها أو إنكارها لعدد من أبرز اﻷفلام الكوميدية الرومانسية في حقبة الستينيات، فاختيار المزرعة كمسرح رئيسي للأحداث يتماس مع مسرح اﻷحداث لفيلم (آه من حواء) وحتى وظيفة بهجت أبو السعد (محمد ممدوح) كطبيب بيطري ووصالها مع وظيفة حسن (رشدي أباظة) في نفس الفيلم السالف ذكره، وحتى مشهد طلب العريس ليد شمس وسخريتها اللاذعة منه يتشابه مع المشهد الشهير الذي تستهزيء فيه أميرة (لبنى عبدالعزيز) بالعريس الذي تقدم لها.
لا تنتهي اﻹشارات عند هذا الحد، بل تزداد أكثر، فتدخُّل اﻷم نجوى (ليلى عز العرب) من أجل التقريب بين ابنتها شمس (نيللي كريم) وزوجها (بهجت) بعد اكتشافها لزواجهما الصوري يحمل أصداء فيلم (ليلة الزفاف)، بل إن أول مشهد يضطر فيه الزوجان للنوم معًا في نفس الغرفة بسبب تواجد اﻷم يتشابه لدرجة التطابق شبه التام مع مشاهد مجدي وسلوى (أحمد مظهر وسعاد حسني) في غرفة نومهما في نفس الفيلم.
ولا تقتصر هذه التحية السينمائية فقط على تفاصيل القصة نفسها، بل تمتد إلى عصب موضوع الفيلم نفسه، والذي يرتكز على العلاقة بين الرجل والمرأة، والتغيرات الفارقة التي طرأت عليها في المجتمع المصري تعيدنا لفيلم مثل (مراتي مدير عام الذي قدم تعليقًا اجتماعيًا موفقًا، واضعًا في اعتباره لما حدث في طبيعة العلاقة وموازين القوى بين الجنسين بعد يوليو 1952، و(بشتري راجل) يعيد الكرة من جديد مع النظر لطبيعة العصر الحالي، وبحثه عن تحدي جديد يواجد العلاقة بين الجنسين يشتبك مع هذه الفترة ومع أكثر تقاليد المجتمع وضوحًا فيما يختص العلاقات الزوجية.
على الدوام كانت العلاقة بين المرأة والرجل بكل تنويعاتها المحتملة والممكنة منبع غني لفن الكوميديا، فهى قابلة للتعاطي مع مختلف الثقافات لدرجة تجاوز الحدود الثقافية في الكثير من اﻷحيان، وكلما كانت الحكاية متركزة على تيمات متجاوزة، كلما سهل وصولها إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، وهو ما ينجح به هذا الفيلم الذي يضع الصور المعتادة لعلاقات الحب والزواج منعكسة أمام ذاتها لحد السخرية منها، حيث يبدأ الفيلم بفاصل خطابي بشكل مقصود عن علاقات الحب، وسرعان ما نكتشف أنه جزء من البرنامج اﻹذاعي الذي تقدمه نيفين (دنيا ماهر) وسرعان ما تهدم شمس هذا الكلام المعلب برسالة ساخرة لصديقتها التي تقدم البرنامج.
يصنع الفيلم مواجهة موفّقة بين التصورات السلبية واﻹيجابية عن العلاقات العاطفية والحقائق الملموسة عن العلاقات العاطفية التي لا يمكن الوصول إليها سوى بالتجربة الحية، فتتكرر لهذا السبب الفواصل الخطابية الخاصة ببرنامج نيفين اﻹذاعي لتكون بمثابة مقدمات لكل مرحلة جديدة في علاقة شمس وبهجت، معززًا بشكل واضح روح المقارنة بين ما نقوله وبين ما نفعله داخل العلاقات، نعم قد يبدو الحديث جذابًا وبراقًا، لكن هل الحقيقة تحمل نفس البريق؟.
هذه المواجهة نجدها داخل شخصية شمس نفسها التي تقوم طوال النصف الأول بإطلاق اﻷحكام العامة جزافًا عن العلاقات (بكليتها) وعن الرجال (جميعهم) بناء على تجربتها (الجزئية) معهم التي لا تعني بالضرورة أنها تعبر عن (جميع) التجارب، وهنا يسخر الفيلم بلا هوادة من الكثير من التصورات النسوية المعلبة عن مسئولية الرجل عما تعانيه المرأة في أكثر من موقف، مثل اضطرار شمس إلى التفكير في خوض علاقة جنسية للمرة اﻷولى منذ زواجها مع بهجت واضطرارها للتخلي عن فكرة أطفال اﻷنابيب بسبب فشلها مرة تلو مرة، حتى تتنازل عن أفكارها المتعسفة والمتحجرة واحدًا بعد اﻵخر.
ومع اختيار محمد ممدوح للدور الرئيسي، يكسر الفيلم كل الصور الشكلية النمطية عن الشريك الرومانسي مثلما فعلها من قبل الروائي والمخرج الفرنسي دافيد فونكينوس في فيلمه Delicacy، باﻹضافة إلى أن الفيلم نفسه لا ينظر أصلًا لهذا الاختيار على أنه اختيار غريب أو خارج عن السياق، بل يتعامل معه بشكل طبيعي تمامًا، متبنيًا ومؤكدًا على نفس النظرة الواقعية عن العلاقات العاطفية.
نيللي كريم هي الأخرى تخرج أخيرًا عما اعتادت تقديمه في السنوات اﻷخيرة، وتترك نفسها تمامًا لحالة الفيلم الساخرة هذه، وقد يبدو من الخارج أنها تقدم نفس النمط المعتاد من نموذج المرأة الصلبة المستقلة، لكنها على العكس تدرك الفارق بين ما تبدو عليه الشخصية من الخارج وبين حقيقتها الفعلية، وتتعامل معه بحساسية كبيرة.
كما لا يبدو هنا الممثلون المساعدون أنهم متواجدون فقط للمشاركة في إثراء الجرعة الكوميدية داخل نسيج الفيلم بقدر ما يشكلون هم أنفسهم تنويعات مختلفة على واقع العلاقات: الصديقة التي تربي ابنها بمفردها، خال البطل المرفوض كشريك عاطفي على الدوام، خال البطلة الذي يدرك أهمية وجود شريكة عاطفية بعد طول تعظيم لفكرة الوحدة.
منذ زمن طويل، لم يصادفني فيلمًا رومانسيًا كوميديًا في السينما المصرية يحمل فكرة جيدة يستطيع الحفاظ عليها حتى النهاية، وفي نفس الوقت يحافظ على روح هذه النوعية من الأفلام، لذلك كان تفوق (بشترى راجل) في الحفاظ على هذين العنصرين، معيدًا إلى الذاكرة بريق أفلام مماثلة من تراث حقبة الستينيات.