(تحذير: قد يحتوي المقال على حرقٍ ﻷحداث الفيلم)
اضغط على زر التوقف، ثم انظر للخلف على حياتك وفكر قليلًا، هل ترى ما يُمكن أن نُسميه في عالم السينما بالحبكة أو الالتواءة التي تصلح لصياغتها في عمل فني؟ نعم قد تكون حياتك صعبة أو قاسية أو تحتوي على صعودًا وهبوطًا، ولكنها في النهاية حياة عادية ليست كمثل التي يمتلكها الأبطال الخارقون أو المحاربون العظماء. ولكن يُمكن صياغة تلك الحياة في فيلمٍ لا يحمل تلك الالتواءات اللازمة لصناعة فيلم سينمائي، وهو ما فعله باري جينكينز بتحويل مسرحية بعنوان "في ضوء القمر الأولاد السُمْر يبدون زرقًا" للكاتب الثلاثيني تاريل ألفين ماكريني، لفيلم، اكتفى بتسميته "ضوء القمر" وكتب له السيناريو وقام بإخراجه.
في كسر لإحدى أهم قواعد العالم السينمائي، والتي سبقتها فيها الأعمال الأدبية اختار "باري" ألا يكون لفيلمه تلك الحبكة المُتعارف عليها ليَظهر الفيلم في مُجمله أشبه برحلة المعطيات والنتائج، فاكتفى بإعطائك معطيات حياة البطل "شارون"، وكذلك نتائج تلك المعطيات، دون أن تدخل مع البطل داخل مصنع فرز ودمج وتشغيل تلك المعطيات. حيث قام بتقسيم الفيلم إلى ثلاثة فصول مُنفصلة من حياة "شارون".
كان الفصل الأول بعنوان "ضئيل الحجم" وفيه نتعرف على بطلنا "شارون"، الذي يدعونه أقرانه بالشاذ ضئيل الحجم، حيث يبدأ الفيلم به وهو يهرب من أقرانه الذين يتسلون بضربه ليهرب ويختبئ بأحد الأماكن ليعثر عليه خوان "ماهرشالا علي، موزع المخدرات ويُطعمه ويصطحبه معه لمنزله إثر رفض شارون الحديث. مع تلك المعطيات قد تتوقع تطورًا ما للأحداث قد يجعلك تجلس على أطراف مقعدك، إلا أن أيًا من ذلك لا يتحقق، فمن مائة موقف مثل ذلك في الحياة قد يحدث مرة أو اثنين ما أنت في انتظاره، ولكن في باقي المواقف تأخذ الحياة مسارها الطبيعي بأن يتحدث "شارون" ليُخبر "خوان" بمكان منزله فيذهب به لبيته، حيث نجد أمه، التي نعرف أنها مُدمنة للمخدرات، فذلك الحي الذي يعيش به "شارون" يقتات على المخدرات بيعًا وشراءً. وبعد ذلك نرى تردد "شارون" على منزل "خوان" وبداية تعلقه به، حيث يُعلمه "خوان" السباحة.
قد نعتقد هنا أن علاقة "خوان" و"شارون" في طريقها للتطور لتحمل معها مُستقبل ملئ بالمفاجأت إلا أن الفصل الثاني بعنوان "شارون" يبدأ، والذي نتناول فيه حياة "شارون" مراهقًا، ونفهم من خلال اﻷحداث موت "خوان" في أثناء الفترة التي تركناهم بها، لا نعلم كيف مات وكيف كان أثر ذلك على "شارون" وقتها، فمسموح لخيالك هنا أن يتصور، إلا أن البشر يموتون وهذه طبيعة الحياة كما عكسها "باري" على فيلمه. في الفصل الثاني نرى "شارون" وقد ازداد غضبًا عما قبل، ولكنه على ضعفه كما هو، لا يستطيع فعل شئ، هو مجرد آلة غضب مُتحركة وسط شوارع حية، ولكن علاقته بصديقه منذ الصغر "كيفن" تتوطد حتى حدوث بعض التلامس الجنسي بينهما. كان "كيفين" يدعوه بالـ"الأسمر" إلى أن يَحدث موقف بالمدرسة يضطر فيه "كيفن" لضرب "شارون" بتوجيه من أحد زملائه الكارهين لـ"شارون" ودفعه، فما كان من "شارون" إلى أن عاد باليوم الثاني وقام بتدمير كرسيه على رأس زميله الكاره له.
في ظل ذلك التأجج غير معروف العواقب، ينتهي الفصل الثاني، وننتقل للفصل الثالث بعنوان "الأسمر"، والذي نرى "شارون" فيه وقد أصبح نسخة مُكررة من "خوان" تاجر المخدرات، الذي تَعلق به صغيرًا قبل موته. يظهر "شارون" مفتول العضلات يحمل السلاح ويستطيع توجيه من هم أقل منه خبرةً في المجال، يبدو أنه تغير أو نسى ما كان عليه وما ألم به، إلا أننا وبمرور الوقت نعلم أنه ما هو إلا نفس الشخص بنفس الضعف الذي كساه بالعضلات، ويتأجج ذلك الضعف حين نراه مع صديقه "كيفن"، والذي يُقابله بعدما تعاقبت السنوات وتغيرت الأحوال، وعندها يُعلن له "شارون" أن أحدًا لم يمسسه منذ ذلك الوقت. وهنا ينتهي الفيلم.
قد يقابل الكثيرون ذلك الخيار من المخرج بصناعة فيلم على تلك الشاكلة بالسخط والبكاء على ما ضيعوه من وقت في فيلم لا يحمل تفجرًا للأحداث وتبدلًا للأحوال، يجعلك تبكي أو تصفق أو تصرخ مع كل التواءة. إلا أن المخرج والمؤلف باري جينكينز قصد في صناعة فيلمه بتلك الطريقة الكاسرة لأهم تابوه من تابوهات السينما والتي يصعب كسرها لأنها المُفضلة لدى المُتفرج، بأن يُشعر المُتفرج أن هذا الفيلم ما هو إلا صورة مُقتطعة من حياة شاب كان يعيش ويُعاني، دونما جعل تلك المعاناة تصرخ في وجهك فهو بحاجه لأن تلمسها كواقع تراه كل يوم حولك، وكأن هذا الطفل والمراهق والشاب يعيش في شارعٍ مجاور لك، لا يحمل تلك الحبكة التي تستلزم منه أن يكون عالمه مغاير لذلك العالم الذي نحياه.
في بداية الفيلم نرى "شارون" يرفض الحديث مع "خوان" ورفيقته "تريزا"، والتي تم اختيار اسمها بعناية، كنوعٍ من رفض العودة من حيث أتى، تمنى "شارون" أن يكون ابنًا لهذين الاثنين، لذا عندما نطق، صرح قائلًا إنه لا يريد العودة لبيته. كان "شارون" يتمنى الهروب من واقعه وخلق واقع آخر يُرضيه، ويجد فيه من يوفر له الحياة، التي لم يرها من قبل، ولذا عندما يَكبر "شارون" نجده يتخذ من "خوان" نموذجًا يحتذي به وكأنه قد فصم نفسه نصفين، فنصف أصبح "خوان" بقوته وعطفه واحتوائه حتى أنه قلده في أغلب تفاصيله، كحافظة طقم الأسنان الذهبية وغطاء الرأس الأسمر، وأما النصف الآخر فهو "شارون" كما هو ضعيفًا راغبًا من "خوان" أن يكون راعيًا وداعمًا له في حياته. ولكن تطابق مصائر "خوان" و"شارون" يمكن أن يُنبئنا بالمصير المُنتظر لـ"شارون"، والذي يُعتبر نموذجًا مكررًا من حياة "خوان"، فما هما إلا نمط يتكرر في أغلب المُجتمعات كان يُمكن إنقاذه بتغيير مسار حياته البائسة.