ربما يتعجب من يعرف فيلم "Loving" من عدم انضمامه لثلاثي الحركة ضد السود بالأوسكار الماضي "Hidden Figures وMoonlight وبدرجة أقل Fences"، خصوصاً وأن قصته هي الأكثر مباشرةً وجدلاً في تناول جدلية التمييز العنصري، وعادةً ما يُنطر لتلك الأفلام أنها صفحة هامة في تاريخ السينما الأمريكية للصراع الأزلي بين العرقين الأبيض والأسود، وملايين القصص التي تفرعّت من هذه القضية، والتي تكون من ناحية الأحداث إما بطابع مُباشر نقلاً عن قصة حدثت في أرض الواقع، أو تكون مقتبسة منها في إطار قصصي جديد. أما من ناحية السرد فبحسب ما رأيت من أعداد لتلك الأفلام، فدائماً ما يميلون إلى طابع التوثيق الميلودرامي، في أن تكون مليئة بالمشاهد الزاعقة الصاخبة ولحظات الذروة المُتفجرة فعلياً على الشاشة أو ضمنياً في أعماق شخصياتهم، تلك الأفلام التي يُنتج منها أعدادٌ كبيرة سنوياً لدرجة أنها شكّلت ما يشبه بإطار تصنيفي جديد "Category" خاص بها.
القصة هذه المرة تحكي عن الزوجين "ميلدريد" (روث نيجا) و "ريتشارد" (جويل إجيرتون) اللذان مُنعا من دخول ولاية واشنطن في أواخر الخمسينيات بعد أن علم رجال الشرطة أنهما ليسا من نفس العرق، وهو قانون كان يُطبّق في عددٍ من ولايات أمريكا دون غيرها آنذاك، ليُترك لهم الخيار إما بالإنعزال عن بعضهما خمسة وعشرون عاماً، أو تمضية عام كامل في السجن، ليعودا إلى ولايتهم الأصلية فيرجينيا ويبدآن في التفكير عن حلٍ بين الأمرين إما أن يعيشا كامل حياتهما في مكانٍ لا يريدانه ولا يتناسب مع حياتهم الأسرية، أو أن يرفعا قضيتهما للمحكمة العليا في ظل خطورة العواقب، وبمنظورٍ وطني أن لديهما الفرصة بأن يغلقا باب النظرة الطبقيّة للحالات المُشابهة.
الغريب في الأمر أن برغم الصخب الذي يمكن توقعه من قصة كتلك على صعيدها التاريخي، إلا أن المخرج الأمريكي جيف نيكولز قدم معالجة مغايرة تماماً لما تسري به هذا النمط من الأفلام، فكمّ الشاعرية والهدوء الإيقاعي الذي يتبعه الرجل في أسلوبه يجعل من فيلمٍ ملحميّ في التصوُّر كهذا، يتحول إلى فيلمٍ أسلوبيّ بحت ومنوال ليس سهلاً أن يتقبله المشاهد الذي اعتاد إطاراً معيناً تدور فيه أساليب الأفلام المنقولة عن أحداثٍ حقيقية. يتحول الفيلم من كونه يتناول قضية العنصرية الأولى لاختلاط الجنسين بين الولايات بأمريكا، إلى فيلمٍ رومانسي عن زوجين تواجههم معضلة حياتية تلتمس القوة والمشاعر الدفينة في علاقتهُما ببعض. أبعادٌ للقصة الصغيرة تلك وسط القصة التاريخية الكبيرة، شيئاً أبعد ما يُتوقع أن تجده إذا ما قررت مشاهدة الفيلم بقراءة ملخص قصته فقط، بعيداً عن مشاهدة إعلانه الدعائي أو التعرف على الأسلوب الذي يطغى على الأعمال السابقة لمخرجه.
هنا أنت لا تهتم إذا ما سينجحا في مهمتهما أم لا.. لا منحى ميلودراياً قادماً ولا لحظة الذروة المنتظرة.. ولا حتى بالكيفية التي ستنتهي بها القصة لأنماط الأفلام الروائية المشابهة في التيمة والبناء القصصي.. ليس من المفترض أن تهتم بكل هذا.. هنا أنت تجلس لتستمتع بالسينما في معناها التقليدي المجرد، فن الاعتماد على الصورة كعامل أول لنقل القصة للمُشاهد، الصورة هنا هي كل شيء؛ تكوينات بصرية طويلة لنقل الإحساس بالمكان، حركة بطيئة للكاميرا تتناسب مع الإيقاع البطيء الذي يغلف بالأسلوب، تعبيرات الوجه والمشاعر والحالات الانطباعية التي تتعاطف بها مع الشخصيات، الامتثال لمدرسة التعبير بالصور وليس الكلمات، حوارٌ يأتي عند الضرورة القصوى وليس عامل لذاته، موسيقى تصويرية خافتة النغمات ومتناغمة مع الجو العام للفيلم، حتى الإيقاع يُحافظ عليه المخرج طوال تتابع الأحداث وفي التنقل من مشهد لآخر ببُطئه الشديد وهدوئه الواضح. أمرٌ ستستمتع به بشدة إذا كنت من المُشاهدين الصبورين الذين يتمعّنون في تفصيلات الفيلم، والمنفتحين على السينما بتطرقاتها القصصية المتنوعة التي يختارها مخرجو هذه الأفلام بحرصٍ بالغ، وترتيبٍ دقيق لكل شيء، وبنفس القدر تُقلب الجملة ويكون العكس صحيح إذا لم تكن ضمن هؤلاء.
أول من جاء في ذهني على هامش هذا الأسلوب الإخراجي من حيث بطئ الإيقاع وتوظيف الموسيقى القليلة هو "Foxcatcher"، وهو أمر غاية في الصعوبة حقيقةً أن يجعل المخرج شخصياته لها جانب إيقاعي واحد طوال المدة الزمنية للفيلم، فشخصياتنا متعددة الأبعاد نعم، لكنها تدور في نفس الإطار من حيث الهدوء في كل شيء؛ هدوء في طريقة الكلام وفي الإنفعالات، هناك لون شعوري واحد يطغى على شخصيات الفيلم؛ شيء قد يكون أقرب للجمود، شكلاً سينمائياً بحتاً مناقض لواقعية الحدث وهنا تكمن روعته، حتى في عنوان الفيلم الذكي للغاية، وكأن المخرج يستهدف اعتقادنا البديهي الأول من إسماً كهذا، أنها قصة عن الحب لزوجان، قبل أن نعلم بأمر ازدواجية المعنى وأنه قصة عن حياة الزوجين باعتبار أنه اسم عائلتهم أيضاً.
من المشاهد المهمة التي تعكس هذه الحالة من الحب في تركيبة العلاقة بين الزوجين، مشهد يُخاطب فيه أحد مسؤلي السلطة الزوجين ونشاهد فيه العبوس وعدم الرضا على وجه الزوج حين يتكلم معه، في المقابل فإن الابتسامة لا تفارق وجه الزوجة وهي مفعمة بروح التفاؤل للمستقبل. أيضاً المشهد الإفتتاحي الموفق جداً لقصة كتلك والذي يبدأ فيه المخرج بتعريفنا ببوصلة أحداث الفيلم بأهم حدث ممكن أي يحدث في حياة زوجين، وهو عندما يجلس الزوجان خارج بيتهما وتنظر الزوجة في وجه زوجها وبهدوء في نبرة صوتها تقول له أنها رُزقت بمولود.
تعد شخصية الزوجة، من أروع ما جسّده الفيلم، بشخصية ملائمة كثيراً لملامحها البريئة، شخصية غنية على الورق بقدر ما هي على الشاشة، لم أستمتع بأداء شخصية أتعاطف معها منذ فترة كتلك التي قدمتها الجميلة روث نيجا والتي ترشحت عنه لأوسكار أفضل ممثلة.
هذا ليس فيلماً مميزاً ومختلفاً بقدر ما هو خروج عن القالب المعهود المتبع في مثل هذه النوعية من الأفلام، الذي يحضُرني منها بقوة "12 Years a Slave"، بالانسياق خارج الشاكلة التي تُبسّط من القصص الواقعية واضعة عبارة "عن قصة حقيقية" في المقدمة، وتلك التي تتناول ألواناً من قضية العنصرية ضد السود، معالجة مختلفة وخاصة للموضوع، بسيطاً للغاية في لغته السينمائية.. وجُلَّ جماليّاته تقبع داخل تلك الهالة من البساطة والأسلوب الذكي الذي أحاطها المخرج بالقضية.
قد تود مشاهدة فيلماً كهذا في الوقت الذي تكتفي فيه بمُشاهداتك الفيلمية لأفلام صاخبة مؤخراً، كتناولك لحبوب مهدئة وسط دراميّة الأحداث من حولك، ووضعك للمثل الشهير الذي يقول: "أعظم الأشياء تأتي في أبسط صورها" في الواجهة، ومن ثمّ، تنطلق في الرحلة الشاعريّة بعيداً عن المعهود قليلاً.