عندما شرع الكاتب البريطاني إدوارد مورجان فورستر في مطلع القرن العشرين في كتابة روايته القصيرة "اﻵلة تتوقف!"، التي تخيل من خلالها العالم في المستقبل بعد أن سيطرت آلة مهولة على كل مقدرات الحياة فيه وعلى سائر البشرية، بحيث صاروا منعزلين في غرف مغلقة مع حفاظهم على التواصل معًا بالتقنيات المتقدمة، فهو كان يتصور ما سيكون عليه العالم من منظور افتراضي يمكن تلخيصه في سؤال (ماذا يحدث لو...؟)، لكنه لم يكن يتخيل بالتأكيد أنه مع مطلع القرن الحادي والعشرين سيتحول بعض ما تصور إلى حقيقة، خاصة بعد فورة مواقع التواصل الاجتماعي.
لا يستطيع أحد التشكيك أن مواقع التواصل الاجتماعي قد غيرت للأبد كافة الطرائق التي يتعامل بها البشر اجتماعيًا مع بعضهم البعض لدرجة نسينا فيها بشكل كبير كيف كانت الحياة قبل بزوغ هذه المواقع، ومن ناحية آخرى نكتشف على نحو شبه يومي كيف يستغل أصحاب هذه المواقع ذلك الاحتياج الذي خلقته المواقع التي خلقوها من أجل إحكام السيطرة أكثر فأكثر على المستخدمين، وحيازة كل المعلومات المتوافرة عنهم، هل تتخيل كم السطوة المرعبة التي يتميز بها شخص مثل مارك زوكربيرج والذي يملك تحت يديه كل شيء عن قرابة 2 مليار شخص على موقع "فيسبوك"، أي أننا نتحدث عن ثلث أو ربع سكان العالم؟
ينطلق فيلم The Circle المقتبس عن رواية ديف إيغرز تحديدًا من هذه الفكرة، عن المدى المتوحش الذي وصلت إليه مواقع التواصل الاجتماعي في الاستماتة في الحصول على كل معلومة ممكنة عن المشتركين، حتى أكثرها خصوصية وسرية، وكيف تمسخ الإنسان أكثر من أي وقت مضى ليتحول إلى سلعة مستباحة ورقم مفرد بين ملايين اﻷرقام، وهي فكرة واعدة جدًا بتقديم عمل جيد، خاصة ﻷنه لا ينطلق بها من منظور الخيال العلمي، بل من منظور الواقع المعاش بالفعل.
ومن هنا، كان أمر بديهي أن يستغل الفيلم في رسمه لعالم The Circle الكثير من اﻷشياء المتحققة على اﻷرض بالفعل ليضمها في نسيجه، True U الذي يعد معادلًا لموقع فيسبوك، الكاميرات الشفافة المتواجدة التي تراقب أماكن عدة من العالم هي نسخة متقدمة من خدمة Google Earth، مشاهد منصة المسرح مستوحاة بالطبع من عروض ستيف جوبز ومارك زوكربيرج.
ومع كل هذه البشائر التي حملها الفيلم لمشاهده، إلا أنه لم يكن مشبعًا على اﻹطلاق على أكثر من صعيد، تقديمه لعالم The Circle كان غير كافي في كثير من النواحي، صحيح أننا نحصل على الكثير من اﻷفكار حول الخدمات واﻹمكانيات التي تتمتع بها، لكن هناك احساس أنه كان باﻹمكان تقديم المزيد من التفاصيل الدقيقة عن عالم The Circle دون الاقتصار على عرض ما تقوم به الشركة على نحو عمومي مقتضب، أو التعامل معه بمبدأ العلم المسبق.
ولذلك، قارن مثلًا طريقة مراكمة نشوء التفاصيل الصغيرة الخاصة بتكون فكرة موقع "فيسبوك" في فيلم The Social Network أو حدود عالم المصفوفة التي يتلمسها "نيو" رويدًا رويدًا برفقة "مورفيوس" في فيلم The Matrix، وفي كلتا الحالتين لا يوجد أي حس تلقيني بالمرة فيهما، بل مساعدة في الاكتشاف.
بجانب الفكرة الرئيسة للفيلم، يتركز الفيلم بالطبع على رحلة صعود ماي "إيما واتسون" داخل الشركة، وبزوغ نجمها فيها وعبر True U، لكن بناء بزوغها في الشركة بناءً على صدفة تواجدها فقط في مكان مراقب بالكاميرات التي تصنعها الشركة قد قلل كثيرًا من قيمة القصة ورحلة الصعود، أظن أننا كنا في أمس الحاجة أن نراقب كيفية توظيف "ماي" لإمكانياتها الشخصية من أجل تعزيز مكانتها في العمل، وهذا كان كفيلًا بأن يجعل لرحلة الصعود تلك معنى أكبر ودراما أكثر ثراء.
إن استخدام الصدفة لا يقتصر فقط على اتخاذها نقطة للصعود، بل يتم كذلك اتخاذها كنقطة لتغير مشاعر "ماي" نحو الشركة التي كانت تعمل ﻷجلها بكل طموح، أنا بالطبع لست ضد استخدام الصدفة في المطلق، بل ضد استسهال استخدامها خاصة مع وجود حلول درامية أفضل من ذلك يمكن اللجوء إليها.
ولم يوفق الفيلم كذلك في صياغة الخطوط الفرعية للحكاية، لكي تستطيع خدمة الحكاية اﻷساسية، رغم أنها كانت تحمل إمكانيات درامية قوية كان من الممكن أن تدعم فكرة الفيلم، ففي الخط الخاص بـ"آني" مثلًا، لا يجيب الفيلم إطلاقًا على التساؤل عن سبب التحول الفجائي في موقفها من الشركة من كونها موظفة بارزة وعضوة في مجموعة اﻷربعين إلى موظفة غير متحمسة للعمل ومشككة فيما يطرحه صاحبها ومؤسسها.
ليس خط "آني" فقط من عانى من القصور الكتابي والدرامي، فالخط اﻵخر الخاص بتاي "جون بويجا" لم يكن بحال أفضل، خاصة مع إثارته للعديد من علامات الاستفهام: إذا كان "تاي" غير مقتنع بما طرأ على النظام الذي ابتكره، لماذا لم يغادر الشركة أو يعترض من قبل على ما حدث؟ وهل ظل كل هذا في انتظار البطل المخلص الذي سيكشف الوجه الحقيقي للشركة وهو ما وجده في "ماي"؟ ولماذا ظل طوال اﻷحداث بكل هذه السلبية الشديدة؟ وماذا كان سيحدث إذا لم تظهر "ماي" في الساحة؟ هل كانت ستظل اﻷمور على حالها؟
ومع وصول الفيلم لنهايته، هناك شعور لا يفارق المشاهد أن النهاية قد جاءت سريعة جدًا، حتى يكاد الفيلم قد قفز مباشرة بدون تمهيد من الذروة للنهاية على الفور دون إعداد درامي كافي ومشبع للأحداث، ليبقى هناك نقص حاد في الزخم الدرامي الذي كان الفيلم في أمس الحاجة إليه، ليبقى الفيلم في احتياج للمزيد لكن دون جدوى.
ومع الفكرة الواعدة التي بدأ بها الفيلم بقوة، إلا أن التنفيذ غير المشبع واللجوء ﻷيسر الحلول الدرامية قد أفقدا الفيلم كثيرًا مما كان يحتاجه ليكون على مستوى فكرته القوية، خاصة مع وجود الكثير من العناصر الدرامية التي لم تستثمر على النحو اﻷمثل.