ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية التي تقام حاليًا لعرض مجموعة مختارة من منتجات السينما العربية، عُرضت المجموعة اﻷولى من عروض محور اﻷفلام القصيرة، والتي بلغ عددها 6 أفلام تراوحت تيماتها وتنوعت بشكل ملحوظ بين الشأن العام العربي والمحلي والشأن الخاص النابع من مرتكزات إنسانية عامة وليس فقط من مرتكزات ثقافية محلية، وهذه اﻷفلام هي: ماريه نوستروم ونيركوك وأسبوع ويومين والببغاء وغواصة وخلينا هكا خير.
ومع تأمل اﻷفلام القصيرة الستة التي عرضت حتى اﻵن، نكتشف أنه يمكن تقسيمها بسهولة إلى ثلاثة محاور رئيسة من حيث التيمات، التيمة اﻷولى هي الطفولة المنتهكة الناجمة عن الظرف العام الذي ينشأ فيه الطفل سواء أكانت توابع الحرب اﻷهلية السورية من خلال (ماريه نوستروم) أو نتاج النزاعات المسلحة على الحدود السودانية في (نيركوك).
التيمة الثانية هي البداية الجديدة، وهي هنا تحاول الابتعاد بشكل تام أو جزئي عن الهم السياسي أو الاجتماعي، وهو ما نجده مع زوجان مشغولان بفكرة الإنجاب في "أسبوع ويومين"، أو محاولة عائلة يهودية تونسية للتأقلم في المجتمع الإسرائيلي الناشئ بعد هجرتهم إلى مدينة حيفا في أربعينات القرن العشرين في "الببغاء".
أما التيمة الثالثة واﻷخيرة، فتعني بفكرة التأقلم مع الوضع القائم، مثل محاولة فتاة الحفاظ على حالها الدائم في ظل أزمة القمامة في لبنان في "غواصة"، أو محاولات جد مسن لتجاوز الحدود المرسومة بأوامر اﻷطباء في "خلينا هكا خير".
لحين لحظة الوصول إلى تتابعات النهاية التي تكشف لنا عن حقيقة ما كنا نراه طوال وقت الفيلم عن كون اﻷب والابنة كانا جزء من أفواج اللاجئين السوريين الهاربين نحو القارة الأوروبية من نيران الحرب، لا يقول لنا الفيلم أي شيء عن سبب وجود اﻷب والابنة على ضفاف هذا الشاطئ، ولا عن محاولات اﻷب المستميتة لقتل ابنته غرقًا في البحر، بل أننا لا نسمع ثمة حوار طوال الفيلم، كل ما يفعله الفيلم هو دفعنا لمراقبة ما يحدث دون أي تعليق من طرفه أو من طرف أبطاله.
إن غياب الحوار عن الفيلم لم يكن خيارًا فنيًا بقدر ما كان ضرورة درامية مبنية على العلاقة التي تتفسخ يومًا بعد يوم بين اﻷب والابنة بعد محاولاته الفاشلة لقتلها غرقًا خشية عليها من الموت في المحيط، وهو ما يصل لذروته دون حوار أيضًا حين تقوم الابنة بالبصق على الطعام الذي يقدمه اﻷب لها.
وتكاملًا مع الغياب التام للحوار فيما عدا تقرير إخباري في ختام الفيلم يضع النقاط فوق الحروف، يتخذ الفيلم مدخلًا تقليصيًا Minimalist ﻷقصى حد في سرده للحكاية، حيث قلة المواقف التي تجمع بطلي الفيلم ووحدة مواقع التصوير سواء على الشاطئ أو في المسكن المؤقت الذي يسكنه كلاهما.
في مشهد افتتاحي سريع، يوجز الفيلم الخلفية الاجتماعية لبطله الرئيسي نيركوك حتى يتفرغ مخرج الفيلم لمتابعة بطله الصغير الذي يعيش أزمة أكبر من فقدانه لوالده تحت نيران الحرب، وهي وقوعه في قبضة لص يجبره على سرقة المنازل.
صحيح أن الحوار الذي يغير من موقف نيركوك اﻷخلاقي مما يفعله يحمل صبغة وعظية إذا نظرت إليه مجردًا من سياقه الفني، إلا أنها في سياق الدراما ربما لا تبدو كذلك، خاصة أنها وجهات نظر صادرة عن أطفال، وإن كان من اﻷفضل صياغة الحوار على نحو أبسط من النتيجة النهائية، ﻷن هناك شعور بأن الحوار أنضج قليلًا من أن يتحدث به أطفال بهذا العمر.
بالرغم من أن الحوار قد يبدو في بعض اللحظات القليلة جدًا متجهًا نحو الحس التقريري عن حياة الزوجين بطلي الفيلم، إلا أن كاتبة ومخرجة الفيلم مروى زين لا تنغمس في ذلك كثيرًا، وبدلًا من ذلك فهي تسرب لمشاهد الفيلم الكثير مما يحتاج المشاهد أن يعرفه عن حياة البطلين والمعضلة التي يعيشاها في نثرات محسوبة هنا وهناك: الطبقة التي ينتميان إليها، طبيعة حياتهما، نوعية الأنشطة التي يحبا ممارستها، الكتب التي يحبا قراءتها.
وعلى مدار أحداث الفيلم، يكون المشاهد أمام مفردتين متقابلتين ومعاكستين لبعضهما البعض، اﻷولى هى الاستمتاع المطلق بالحياة وهو ما يتم ترجمته على الشاشة لمشهد حسي خالص يجمع الزوجين في بداية الفيلم، ويتم العودة إليه في النهاية بعد العودة للمربع رقم واحد.
والثانية هي التصعيد للخطوة التالية في المسؤولية وهي اﻹنجاب، وهي ما يتم ترجمته بالمشاهد التي ينفرد فيها كل من الزوجين في عالمه، حيث تنحسر الحميمية والحسية التي رأيناها في البداية في الخلفية لحساب الانشغال بفكرة الإنجاب، مع تحول كافة المشاهد الحوارية بينهما إلى حوارات من طرف واحد أقرب إلى المونولوج الفردي.
بما أن هذا الفيلم يتناول نشأة المجتمع الإسرائيلي في بداياته المبكرة من خلال قصة أسرة يهودية تهاجر من تونس إلى مدينة حيفا، كان من الممكن لهذا الفيلم بفضل موضوعه أن يتحول لفيلم ذو نكهة سياسية يحاول أن يسجل موقفًا مما جرى خلال هذه الفترة، إذا كان في يد صانع أفلام آخر، إلا أن فيلم "الببغاء" يتجنب هذا الفخ تمامًا، بل ويتجاوز كل المواقف السياسية حول الصراع العربي اﻹسرائيلي لحساب تناول حكاية إنسانية بسيطة عن البدايات الجديدة وتجربة الهجرة بكليتها.
طوال أحداث الفيلم، نحن محبوسين مع اﻷبطال داخل منزلهم الجديد الذي حصلوا عليه من الحكومة الإسرائيلية، لكننا أيضًا لا نحتاج ﻷن نعرف أي شيء عما يدور خارجه، حيث ينشغل الفيلم بمراقبة إرهاصات التغيير التي تعصف بالمنزل والطريقة التي تتغير بها هويته ليكون المنزل أكثر "يهودية"، وهو ما يترجمه مخرجا الفيلم باستعارة تقليد متوارث من الفن التشكيلي وتطبيقه داخل الفيلم، وهو صور الطبيعة الصامتة Still Life مع تعميمها على كل مظاهر المنزل: اﻷثاث، اﻷيقونات ذات الطابع الديني، اﻷطعمة.
وداخل نفس المنزل، نراقب معضلة أكبر تواجه هذه العائلة اليهودية الوافدة لتوها، وهي أزمة الاندماج في ظل مجتمع جديد وأكبر ومتعدد اﻷصول، وهو الصراع الذي يكثفه مخرجا الفيلم ببراعة في مشهد العشاء مع العائلة اليهودية الاشكنازية في سبيل البحث عن عمل، وهو ما يضع رب المنزل أمام اكتشاف جديد ومؤلم: إن كونه يهوديًا لا يكفي للاندماج بشكل كامل في هذا الوسط، خاصة مع مقارنة حال اﻷسرتين في نفس ذات المشهد التي يلمسها المشاهد بدون عناء، اﻷصل الجغرافي، الفارق الاجتماعي والتعليمي، وحتى آداب المائدة.
على الرغم من انطلاق الفيلم من أزمة القمامة التي وقعت في لبنان، إلا أنه مع استمرار الفيلم في أحداثه، فهو يأخذ مسارًا مستقلًا بالكلية، مانحًا الحكاية كلها طعم أفلام ما بعد القيامة Post- Apocalypse، حيث نشاهد أمامنا عالمًا يمثله هنا بلدة لبنانية صغيرة ملأتها القمامة وباتت مهددة لحياة سكانها، مع الاعتماد على عناصر الطبيعة للتأكيد على هذا الطعم: أمطار، بحر... إلخ.
يبدو الفيلم في مجمله وكأنه يراقب عن كثب سلوك الجماعات البشرية في أوقات اﻷزمات مثل التي يقدمها الفيلم، ويضع في المقابل أمامها ما يحدث لشخص واحد يقرر -ممثلًا في هالة بطلة الفيلم- الخروج عن المسلك الجماعي الذي أقرته هذه الجماعة البشرية لها، وذلك حين تقرر هالة البقاء في هذه البقعة الخطرة رغم كل التحذيرات، كأنها حكاية سرمدية تتكرر على نحو يومي حول الطبيعة البشرية.
المدهش أن السكان لديهم شيء من التأثر بشخصية هالة مع استغرابهم إياهم، وهو ما لا يستطيعون إخفائه حينما تمنحهم هالة شعورًا باﻷمان المؤقت داخل المرقص، أو كما نرى في مسلكها مع الرجل الذي يحبها.
على نهج اﻷفلام التي تستكشف العلاقات التي تكتنفها فوارق عمرية فارقة يأتي هذا الفيلم، حيث يتلاعب دراميًا بفكرة اﻷدوار الاجتماعية المقررة ويغيرها على الدوام، وهو ما نراه في شكل العلاقة بين اﻷم ووالدها المسن المريض الذي يخرج دومًا عن طوعها وتحاول هي طوال الوقت إعادته لما هو صحي، لكنه في الوقت ذاته يعيد اكتشاف أيامه الغابرة من خلال العلاقة التي تجمعه بحفيده الذي ينفذ له كل ما تمنعه أمه عنه.
هذه التركيبة المتلاعبة قد جعلت منه فيلمًا مرحًا للغاية حتى مع التقليدية الشديدة للفكرة أو طريقة تقديمها، لكنه بشكل ما ينجح في الحفاظ علينا كمتابعين لما يحدث.