"مَيِّل يا غِزَيَّل".. يكشف مَيلنا للطبيعة

هيكل ورويدا في مشهد من فيلم (مَيِّل يا غزَيِّل)

- بس قِلي عم هيكل.. شَغلِتَك بين الطوب والحجارة هيك، ما حسيت فيها وحدة.. عِزلة؟

= ....... لا بالعكس.. إثبات.. إثبات وتأكيد على وجودي.

هذا هو واحد من أسئلة عديدة ذكية طرحتها إليان الراهب - مخرجة فيلم مَيِّل يا غزَيِّل - على بطل فيلمها "هيكل"؛ المسيحي الستيني الذي بقى على ارتباطه بالأرض والطبيعة، وأصّر على ملازمته للزراعة وأعماله المتباينة التي ينجزها بأنامله - ما بين تشييد وزراعة وإصلاحات ورعاية حيوانات – بعيدًا عن التكنولوجيا وصخبها ونزوح الناس إلى بهرجها وبريقها.

وأسئلة إليان لعَم "هيكل" طيلة مجريات الفيلم - في رأيي - هي عماد الفيلم ونقطة قوته الأولى، فاستطاعت أن تغوص بأسئلتها عميقًا في خبايا شخص بخبرات وتجارب عم هيكل، وتمكنت من استفزاز أمور - وإن بدت صغيرة - لها شأنها في تشكيل شخصيته وسيرورة حياته. فكانت ذكية للغاية في تشكيل أسئلتها وطرحها، ومجاراة بطلها في الجواب لينضح لنا بمكنوناته وتفاصيله التي اختار لبعضها النسيان وقبضت عليها هي بتساؤلاتها.. هذا فضلًا عن سلاسة الأمر لنا كمُشاهدين في أن نسمع سؤال إليان وبأي لهجة تطرحه، ثم نرقب ردود فعل هيكل، ما بين ترقب، حيرة، بسمة، حزن، أو صمت، قبل أن يُدلي بجوابه ويروي تجاربه؛ وهو الأمر الذي سمح لنا بأن نندمج تمامًا ونغوص مع الرجل في أسراره وأقاصيصه. بدلًا من مشاهدته يحكي بنفسه كل ما يحكيه طيلة أحداث الفيلم دون أسئلة يجيبها أو ردود أفعال يتفاعل معها، أعتقد حينها لم تكن رواياته لُتصبنا بما أصابتنا به في الطريقة التي اعتمدتها إليان لفيلمها.

أعجبني أيضًا الخط الذي ارتكنت إليه إليان منذ بداية الفيلم - وهو دليل جديد على ذكائها في إدارة فيلمها وصناعته - بسؤالها لعم هيكل عن العنوان الذي يرغب به لفيلمه، حيث تُلاطِفه وتُشاكسه في كل مرة سائلة: "عم هيكل، ما قِلتلي لهلا، شو بِدنا نسمي الفيلم؟".. ليجيبها مُقترحًا عنوان يميل إليه ويحكي عن مبرراته لاختياره، فتعنوّن هي فصلًا من فصول فيلمها بالعنوان الذي انتقاه، وتربط من ذكريات الرجل وتجاربه ورواياته ما يتسق مع هذا العنوان.

من مزايا صناعة الفيلم التي أعزو فضلها إلى إليان أيضًا، قدرتها على التنقل بسلالة بين شخوص فيلمها والبيئات المختلفة التي ترصدها بكاميرتها، فتجدنا في مشهد بين الطوب والأحجار، حيث عم هيكل يستخدم أدواته الثقيلة الصاخبة في التشييد، ثم تنتقل بعدها لمشهد هيكل الحالم - وهي لقطة محببة للغاية تتكرر كثيرًا في فيلمنا - يمسك بغليونه ويشعله بتؤدة، ثم ينفث دخانه وهو يتأمل الطبيعة معشوقته في صمت ورضا.. بعدها تنقلنا إليان من عم هيكل مُعتليًا سطح منزله بينما يدق المسامير هنا وهناك، ثم لعم هيكل جالسًا مع حيواناته الأليفة يداعبها بأنامله.. ومن مشهد صحراوي تفعمه الشمس والحرارة، إلى مشهد يفرض فيه الثلج نفوذه وينشر بساطه الأبيض في الأرجاء.. ثم من مشهد يتغنى فيه أهل الدار ويتراقصون على أنغام أغنية "ميِّل يا غزَيَّل" لـنجاح سلام، إلى مشهد جاد يقوم فيه بعض الرجال بدراسة تقسيمات الأراضي.. كل هذه المشاهد تنتقل المخرجة بينها بسلاسة تامة، تاركة الأثر المطلوب بك، إن كان طرافة، شجن، تورط مع أحدهم، أو معانقة تباين الفصول الصارخ بجماله وتناقضاته في هذه الطبيعة المجردة.

ثم تؤكد إليان ذكائها من جديد، في مداعبة شخوص الفيلم بأسئلتها الخفيفة، فتجعلنا نتعلق بـ "رويدا" التي اختارت تلك الحياة الصعبة وفضلّت خدمة عم هيكل عن كل شيء، من خلال بعض دقائق ترصدها فيها إليان بكاميرتها، وسؤالين أو ثلاثة تطرحهم عليها.. حتى "ميساء" التي لم يتجاوز ظهورها مشهدين، تفعم بها إليان الشاشة مرحًا وحيوية، وتقتنص بينها وبين عم هيكل دعابة طريفة بأنه لو صاح عليها مثلما يفعل مع شقيقتها رويدا ستذبحه، بل ولا تتركها مخرجتنا بعد دعابتها تلك، وتقتنص منها رأيًا سياسيًا بسؤالها عما إذا كانت ستذبحه مثل داعش وتنتهج أسلوبهم، فتبتسم الفتاة وتجيبها "داعش مَن، دعينا نتحدث عمن يستحق الذكر".. وبعدما تُعلِّقنا إليان بجميع الشخوص وتعرفنا عليهم، وتُلقي بأنظارنا على مشتركاتهم والتفاصيل البديعة بينهم، تُلهب الشاشة بالحماسة والحيوية على أنغام ميِّل يا غزَيَِل، فيأخذ عم هيكل في التمايل والتراقص مع رويدا وميساء، لترقص الأخيرة ناثرة البهجة بحركاتها ودلال رقصتها.

كلها أمور تبرهن أن إليان تعرف ما تفعل، وأنها حضرَّت لفيلمها بعناية ومهارة، فلم تترك شيئًا للصدفة؛ بل هي اختارت أن تُظهر تباين الفصول، وأن توضح اختلاف البيئات المتباينة التي يجلس فيها هيكل، والتي رغم اختلافاتها فإنها تتفق على اعتناقها الطبيعة المجردة، حتى اختيارها لأن يكون السؤال والجواب هما طريقة عرض الفيلم، وأن تكون الصورة السينمائية هي السائدة دومًا بعيدًا عن الصورة المهتزة أو الأرشيفية المميزة للأعمال الوثائقية، فضلًا عن حبكها لِما تعرضه علينا من شخوص وعلاقات مختلفة بينهم، فنشعر وكأننا نشاهد فيلمًا روائيًا سينمائيًا ينضح بالواقع وأبطاله من منحوتات الحياة، همّوا بدعوتنا لإلقاء نظرة عن كثب على عشقهم للطبيعة وسلامهم معها.

هذا بجانب نجاح إليان في رصد الكثير من الأحداث السياسية والطائفية التي مسَّت وتمس لبنان وكثير من الأراضي المحيطة من منظور أبطال فيلمها، حتى أنها قبضت على أحداث قضائية بين - هيكل وأنطون - وكشفت لنا تفاصيلها وموقف كل طرف منها، وظفرت بكثير من آراء أبطالها على مختلف المستويات.. وهذا لا يشير فقط لتمكنها كمخرجة وصانعة للفيلم، وإنما إلى ذكائها الاجتماعي وتمتعها بشخصية مُحبة تدرك طبائع الأشخاص وتُميزها؛ فتنتقل لنا المودة بينها وبين كل من شاركتهم بأسئلتها في عملها.. حتى أنها تسأل زوجة رئيس العمال "حسن" في نهاية الفيلم عَمَّا إذا كانت تحب زوجها أم لا، فتجيبها الأخيرة بالإيجاب بصوت مرتفع وتُلحِق جوابها بدعابة تَسُب فيها إليان من باب المزاح.

من محطات الفيلم التي استطاعت فيها صانعته أن تغوص عميقًا داخل عم هيكل، حين سألته "كان ممكن تقع عم هيكل، كان ممكن تقع في كتير محطات" فُيجيبها "إي.. وقعت.. وقعت كتير.. أكتر ما ممكن تتخيلي.. وقعت وكان فِيّ قوم".. لتأخذنا معه إلى روايات هدم مزرعته وطلاقه وغيرها من مصائب واجهها على مدار عمره.. ثم سؤالها في يوم لا يعرج أحدهم - ليلقي السلام - على عم هيكل في مزرعته "وشو بتعمل لَمَّا بيمر عليك يوم من دون ما ييجي حدا عم هيكل" فينظرها وقد اكتست ملامحه بحزن يحكي الكثير "إي.. اليوم ما إجا حَدا.. وإيام كتير هيك" ثم ينهل من غليونه وينفث دخانه متأملًا الأفق الزراعي حوله بوجه طالهُ الأسى.. وأعتقد أن إليان عنونت فيلمها بـ ميِّل يا غزيل، كدعوة للمقربين أن يعرجوا على هذا الرجل الطيب الأصيل كلما استطاعوا، حيث أننا جميعًا أحببناه وتعلقنا بعشقه للطبيعة من خلال دقائق قضيناها معه، وبضع أسئلة سمعنا جوابه عنها، فتمنينا أن نشاطره جلسته المحببة البسيطة لو أمكننا ذلك..

يبقى واجبًا أن أشيد بكاميرا جوسلين أبي جبرايل مُصوّر الفيلم، والذي اقتنص لوحات بديعة طيلة مراحل الفيلم، وكان قادرًا على أن ينتقل بالنعومة اللائقة والتي تطلبتها رؤية إليان خلال محطات فيلمها المختلفة.

فيلم "ميّل يا غزَيِّل" عُرض في مهرجان دبي السينمائي الدولي وظفر بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة المهر الطويل، كما اقتنص جائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم تسجيلي طويل في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية، وهي جوائز يستحقها دون جدال، وأراني قد حالفني الحظ لمشاهدة الفيلم أثناء عرضه في أيام القاهرة السينمائية.

الفيلم جميل، بديع، بسيط، حقيقي، وساحر.. استطاعت صانعته أن تُنقب به في خبايا أبطالها عن الكثير، كما استطاعت أن تَنبُش - بمنتهى السلاسة - عن حب الطبيعة القابع في أرواحنا بالفطرة، لذا تَحية كبيرة لـ إليان الراهب على ذكائها وحرفتها في صنعة فيلمها وإدارته، وسآخذ من عنوان فيلمها "ميّل يا غزيّل" سببًا لأن أبحث عن باقي أعمالها و"أميِّل".