"إزاى تقدر تموت إنسان ويفضل عايش؟" سؤال واضح وصريح لكن هل تستطيع إجابته؟
شخصيتان تتمحور حولهما السياق الدرامي وسير الأحداث، وهما الدكتور طارق، دكتور الأمراض النفسية، و شخص مجهول الهوية يدعى توفيق. من خلال لغة حوارية متقنة الكتابة يدور حوار شيق جدًا وغريب ما بين الدكتور طارق وتوفيق، من خلاله نتعرف على هذا السؤال وأنه عبارة عن تجربة نفسية جديدة يريد توفيق أن يجعلها محور تجربته على الدكتور طارق، ولكن هذه التجربة ليست مخيرة، إنما مفروضة على الدكتور دون معرفة السبب من قِبل توفيق، تستمر هذه التجربة لمدة 30 يوم، وكل يوم يواجه طارق إختبار نفسى مختلف يقتل بداخله جزء صغير حتى يصل لدرجة الموت النفسي، فهل ينجح توفيق في هذه التجربة أم لا ؟
العنصر المميز في تقديم هذا العمل الدرامي غير المألوف هو المؤلف مصطفى جمال هاشم والمشرف على الكتابة أحمد شوقي، لغة حوارية متكاملة بسيطة في الأسلوب غنية بتفاصيل مهمة، صادمة في تأثيرها، تجعلك كمشاهد متشوق أكثر فأكثر لمشاهدة مشاهد عديدة يتم من خلالها تقديم سيناريو ممتاز من حيث المضمون وطريقة السرد.
العنصر الأساسي الآخر الذي وضع السيناريو في إطار إبداعي مميز هو كادرات المخرج حسام علي ومدير التصوير كريم أشرف؛ فمن خلال رؤيتهم الفنية المتقنة تم تقديم لوحات تصويرية جميلة، خصوصًا زوايا الإضاءة واللعب على إدخال ومزج لونين فى تقديم الشخصيات ومشاهد كثيرة هما اللونين البرتقالي والأزرق الأرجواني، فاللونين هما عكس بعض، أحدهما لون ناري والآخر بارد ليرسم تفاصيل الشخصيات وأبعادها الداخلية، كان استخدام عبقري للإضاءة والألوان ليعكس فكرة وأجواء الحبكة الدرامية، وهى الإرتباك النفسي.
المسلسل قدم لنا نماذج مختلفة من الإضطراب النفسي المعقد داخليًا لكن ظاهريًا فهو متخفي تمامًا، مراحل متطورة من المشاكل النفسية المختلفة التي تؤدي لكوارث، فمنها ما يتم معالجته ومنها ما يدمر الإنسان داخليًا ومنها ما يدمر المحيط أو الدائرة القريبة من المشكلة نفسها.
المسلسل يناقش درجة تأثير الإضطرابات النفسية على وعي الإنسان، فهناك أشخاص ليس لديهم الوعي من وجود مشكلة نفسية، وآخرين لديهم الوعي الكامل بالمشكلة لكنهم يرفضوا التعامل معها أو مواجهتها، وآخرين يستمروا في المحاربة، لكن دون جدوى، وآخرين يخترعوا أسباب ومشاكل يتركوها لتستطيع التحكم فيهم ليصبحوا كعرائس الماريونيت، يسيرون حسب رغبة عقلهم الباطن، فتصبح كبذرة يتم زرعها في عقلهم الباطن لتكبر وتتطور وتصبح هى المحيط الأساسي الذي يتم المعايشة بداخله والتحرك والتفاعل على أساسه.
الأداء التمثيلي كان الورقة الرابحة في هذا العمل، فشخصية توفيق التي جسدها المبدع باسل خياط كانت بمثابة ورقة الجوكر فى هذا العمل الدرامي، فباسل قدم شخصية معقدة بشكل كبير من حيث تفاصيل وملامح فكرها وفعلها وتأثيرها وتأٌثرها بالبيئة المحيطة، شخصية ممزوجة بجانب مظلم وجانب إنساني وجانب سيكوباتي وجانب فني إبداعي ليشكل لنا شخصية متكاملة المقادير في كل عنصر، ليقدم لنا باسل واحد من أقوى الشخصيات التمثيلية في تاريخه الفني، استطاع أن يلفت أنظار المشاهدين من أول إطلالة على الشاشة، فنجح بوضع المشاهد في حالة تيقظ وفضول لمشاهدة أفعال هذه الشخصية السيكوباتية لتصبح العنصر الأساسي لدى المشاهد لمواصلة هذه الرحلة.
شخصية الدكتور توفيق كانت الوجه الآخر لنفس الإنسان، فمن خلال تجسيد المتألق آسر ياسين للشخصية وضع إطار لشكل لعنصر الأداء التمثيلي في المسلسل، فكان الأداء السهل الممتنع؛ سهل فى رسم أبعاد شخصيته لكن متميز لمراحل تطور حالته النفسية، فأنت كمشاهد عندك فضول لمعرفة تطور الحالة النفسية لطارق من خلال التجربة التي وقع فيها لتصل لنهاية هذه التجربة وأنت راضي تمامًا لما ظهر من مستوى راقي لمثل هذه الشخصية، راضي ومقتنع لما وصل إليه من إحباط وقتل نفسي، لتتشكل شخصية أخرى تمامًا غير شخصية الدكتور، تتشكل شخصية معقدة وصلت لنقطة سوداء وفي نفس الوقت وصلت لدرجة الحرية المطلقة، حيث لا يوجد قيود نفسية أو منطقية.
شخصية أخرى ظهرت بشكل مفاجئ أصابت الجميع بالذهول والإعجاب الشديد، وهى شخصية الضابط عبد الوهاب التي جسدها الفنان وليد فواز. شخصية عبد الوهاب ظهرت بشكل سلبي على حياة الدكتور، فلا يوجد رد فعل جذري ساعد على حل مشكلة الدكتور طارق لتتحول الدفة بشكل صادم ليصبح هو الشخص الأساسي الذي وضع الدكتور طارق في هذا الإطار النفسي القاتل، فكان السبب وراء كل ما يحدث وكان هو صاحب الفكرة الأساسية، وكان توفيق هو الأداة التى استخدمها لقتل طارق بهذه الطريقة، جسد وليد شخصية تكاد تكون سهلة وبسيطة، لكن من خلال عدة دقائق فى الحلقة الأخيرة استطاع ان يذهل الجميع بهذا الأداء المتميز العظيم الذي جعل المشاهد في حالة صدمة نفسية، ويمكن فى لحظات حالة من الخوف الشديد، فنقطة التحول النفسية لدى عبدالوهاب من الثبات الإنفعالي لحالة الهوس والجنون في لحظة وضعت مستوى أداء وليد فواز في مرتبة جعلته يخطف الأضواء ويُرفع له القبعة.
شخصية ثانوية ظهرت فقط في مشهدين فى حلقتين منفصلتين، وهى شخصية الشحات التى جسدها الجميل محمد فراج. شخصية عابرة ظهرت في حوار مع توفيق، لكن كان لها تأثير بشكل كبير على شكل وملالمح الأداءات التمثيلية، فمحمد فراج أثبت بشكل لا يختلف عليه الآخرين بمدى موهبته الناضجة الإبداعية برسم شخصيات مختلفة وصعبة، فمن خلال مشهدين فقط استطاع إبهار الجمهور وجعلهم يندمجون بشخصية الشحات، والأكثر انتظار ظهور الشخصية مرة أخرى أكثر من مرة، فأصبحت شخصية ذات نكهة مختلفة لا تسنطيع تجاهلها وسط زحمة الحبكة الدرامية، فظهرت كمرآة لعقل وفكر توفيق، ورسمت خيط صغير لملامح شخصية توفيق.
العنصر الأخير ويعتبر الفاكهة أو طبق الحلوى وهو عنصر الموسيقى التصويرية بقيادة الملحن محمد مدحت. محمد شكل إطار المسلسل بطابع جاز كلاسيكي خلاب وضع مشاهد المسلسل فى بورتريه إبداعي جميل يجعلك كمشاهد مستمتع بدرجة إستثنائية. وضعت الموسيقى بشكل عبقري لتشكل ملامح شخصية وفيق، ووضعها في إطار مميز بالإضافة لتسليط الضوء على تطورات مختلفة في فكر ونفسية الشخصيات فأصبحت خلفية فنية لسير الأحداث.
بشكل واضح ومن خلال جميع العناصر السابقة، تم وضع مسلسل "30 يوم" فى قائمة أفضل مسلسلات 2017 فتم تقديم شكل درامي مختلف غير مألوف فى إطار فني أنيق.