-هل تعتقد أن (فيفيان) ستحب الإهتمام الذي تحصل عليه الآن؟
-أعتقد أن .. لا أعلم .. لا أظن ذلك .. أعتقد أنها كانت سيدة ذات خصوصية شديدة .. ربما كانت سترى هذا كنوع من التدخُّل..
الأفلام التسجيلية عادةً ما تُهمَّش من قِبَل مُشاهد ومتابع السينما بصورة قد لا يكون لها تفسير منطقي واضح، ربما يكون الأمر نتيجة تعوّدنا على النزعة الروائية بشكل كبير أو عدم مُشاهداتنا الكافية للفيلم التسجيلي -الذي يُعرف أيضًا في لُغتنا العربية بالوثائقي- للدرجة التي تُمكننا من ملامسة القيمة القصصية والفنية المميزة التي تشملها، نادرًا ما تجد الآن مقالةً أو تقريرًا عن فيلمًا تسجيليًا على صفحات الإنترنت، وأنا أقصد الأعمال التسجيلية الأصلية/الطويلة بعيدًا عن وثائقيات القنوات التلفيزيونية المُهجَّنة/القصيرة التي خرجت عن السمات الأساسية للنمط التسجيلي.. هذا بالتأكيد شئٌ محبط للغاية لشخصٍ تربى على وثائقيات ناشونال جيوغرافيك التي كانت لها الدور الجليل في عشقه لهذا الصنف الفيلمي.. وعلى عكس ما يمكن على المُشاهد البعيد عن تلك التيمة أن يتوقعه، فالفيلم التسجيلي يمتلك قدرة قصصية رائعة، مصدر سحر وجمال هذا النمط القصصي يكمن في شدة واقعيتها وشدة إمكانياتها بالولوج لقلب وروح المُشاهد مُباشرةً، عكس إنتظار إستثنائية القصة مثلًا أو تقديم عمل بيوجرافي قوي في مُقابلتها الروائية.
إذا تحدثنا عن القصص المدهشة والمُلهمة على سبيل المثال: فالفيلم الروائي له الإمكانيات والفرص الأفضل أن يحكي مثل هذا النوع من القصص بسبب أدوات السرد والموسيقى التصويرية والمونتاج..إلخ، لكن إذا كانت القصة هي أساس العمل السينمائي وهي النقطة التي يُبنى على أساسها كل تلك المُساعدات الأخرى التي تظل بلا قيمة إذا لم تكن موجهة أولًا وأخيرًا لصالح النص.. فلا أجد مُعضلة من القول أن الفيلم التسجيلي يمتلك فرصة للتفوق على نظيره الروائي في هذه النقطة بإعتبار أن طبيعة الفيلم المُلهم يتصل دائمًا في مخيلتنا بكونه نابع من الواقع، ومن الظروف الحياتية الصعبة للبشر على الأرض، ومن مفهوم (المعاناة) بالأساس الذي يرتبط دائمًا بفهوم (العيش) .. لذا عندما يشاء القدر أن يشاهد هذا الكائن المُحب لعالم السينما التسجيلية/المولع بعالم القصص السينمائية فيلمًا تسجيليًا يملك قصة تستحق مُناداتها بـالـ(مُلهمة) وتسير معها في درب الدهشة والروعة، لا بد من الوقوف عندها قليلًا لأن هذا بالتأكيد حدثًا غير تقليديًا بالمرّة.
الفيلم الذي صُدر عام 2014 والذي ترشح لأفضل فيلم تسجيلي في العام يحكي عن (فيفيان مايــر)، المرأة التي عُثرَ بالصدفة على أعمالها الفوتوغرافية على يد شاب في عشرينيات العمر عن طريق شرائه في مزاد لبيع الخردوات عددًا من الصناديق التي تملؤها نُسخ سالبة من الصور المُلتقطة مجهولة المصدر، يقوم الشاب بالتحري عن الشخص وراء هذه الأعمال التي تبيّن له بعدما حمضّها وطبعها أنها ليست عادية على الإطلاق وأنها صور بها حس فني رفيع المستوى.. القصة الحقيقية تبدأ عند إكتشاف الشاب أن تلك السيدة متوفيّة منذ بضع سنوات، وأن هناك مئات من الصناديق الأخرى مشابهة لتلك التي إشتراها، وعند تحرّيه أكثر عن القضية -وسط ذهولٌ تامٌ يأسره- يكتشف أن تلك السيدة كانت على مدار كامل حياتها تلتقط صورًا لكل شئ وأي شئ، وتخزنها بحرص شديد يكاد يبلغ الهَوس، وأنها لم ترغب إطلاقًا أن تُخرج أعمالها للنور يومًا ما، وكانت تلتقط تلك الصور كنوع من الإشباع الذاتي.
(فيفيان ماير) -والتي كانت تُنادى بـ(فيف)- هي سيدة شديدة الغموض، شديدة الإنطوائية، يصل غرابة أطوارها إلى حد شخصيات السينما أنفسهم، عاشت طوال حياتها بدون زوج أو عائلة أو أحدًا يرعاها، وعملت في كامل حياتها ـ-وللغرابة- كمربية أطفال، عشقها وهوايتها الحياتية الوحيدة كانت في آلة التصوير حبيبتها.. لتبدأ الرحلة الفيلمية في الواقع برغبة الشاب -بكثير من العزم والإصرار والفضول اللامُنتهي- أن يعرف كل شئ عن تلك السيدة، وأن يُخرج قصتها للنور ويُكشف القضية الغامضة التي إستحوذت عليه وأذهلته تمامًا، بعد يقينه التام أنها كانت مصورة عظيمة في أيامها الخوالي.
حقيقةً لا أعلم من أين أبدأ حديثي عن تلك القصة التي تخطت مجرد كونها قصة سينمائية مذهلة: نعم، هي ليست مكتوبة في شكل نص فيلمي -والتي لن تنتقص من دهشتي شيئًا عند سماعي بها أول مرة-، لكن ربما هذا كان ليُفقدها كثيرًا من بريقها الواقعي.. كونها قصة حقيقية تُعاش من الشخصيات أمامنا على الشاشة ونعيش نحن معها لقطة بلقطة لهو أمرٌ مختلفٌ كليًَّا، وهو ما يذكرني بفيلم تسجيلي مُشابه في روعة حكايته وقوة النزعة التحفيزية به وهو الفيلم الدنماركي/البولندي (Something Better to Come).. القصة هنا تأسر الألباب وتُلهب العقول حقًا، ولا أعلم كيف سأحاول -حتى- أن أصف تلك الحالة الشعورية الأخّاذة التي إمتلكتني أثناء مُشاهدتي للفيلم، ومدى الذهول الذي وجدت نفسي في قلبه من حيث لا أدري.. لكني سأحاول ما بوسعي على أية حال.
أحد أهم الأشياء التي تميز العمل وتجعله فريدًا كُليًّا عن أي قصة من تلك النوع هي النبرة التكثيفية التي يتبعها صُنّاعه لروح الماضي وحنين الذكريات (النوستالجيا) والمشاعر الحميمية الدفينة التي تملأ الأجواء، وهذا من خلال أداتين رئيسيتين: الأداة الأولى هي المقابلات الحوارية لأصدقاء فيف الذين عملت في بيوتهم بأمريكا على فترات زمنية متنقلة من حياتها، تلك المقابلات التي تأخد حيزًا كبيرًا من القصة هي الأداة الرئيسية التي تتحكم في إيقاع القصة، وهي ليست كأسئلة مُباشرة تستهدف إجابات محددة كما تفعل كثيرٌ من الأفلام التسجيلية مثلًا.. لا، بل تشعر أنها جزءٌ طبيعيٌ من مكان الحدث، وأعتقد أن صناع الفيلم قضوا مدة طويلة مع المُحاورين قبل أن يُخرجوا منهم مثل تلك المشاعر والتعبيرات الصادقة.. نُلاحظ أن الكاميرا تتماهى تمامًا مع المُحاورين -العديدون جدًا بالمُناسبة- وتترك لهم الحديث عن أي شئ جدير بالإهتمام أو غير تقليدي لهذه الحكاية النقيضة تمامًا للتقليدية، وبذلك فهي تناسب روح القصة الغامضة ذاتها التي لا نعلم عنها -وربما لن نعلم أبدًا- حقيقتها الثابتة، وهنا أريد أن أذكر جملة من إعلان دعائي لفيلم بلوكبوستر لا أتذكر لمن كان تقول: ماذا تفعل لتجد شخص عاش حياته كلها يمحو أثاره من خلفه؟.. هذا بالضبط ما يحدث في قصة فيفيان ماير.
الأداة الثانية هي عرض أعمال فيفان الخلابة: مجموعة من أفضل الصور التي إلتقطتها المرأة تُعرض بين حينٍ وآخر في سياق القصة وبتتابعات فوتومونتاجية أحيانًا، أيضاً القليل من التسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديوهات التسجيلية شديدة البهجة التي إلتقطتها للأطفال التي كانت مسؤولة عنهم يوماً ما.. هذه الأداة لها قوة كبيرة على التأثير عميقًا في نفس المتفرج ليس فقط للتجاوب مع الشخصية مركز الفيلم وملامسة كيانها ووجدانها وفلسفتها الحياتية وطريقة تفكيرها، لكن أيضاً لإثراء روح الفن ذاته المستمد من خصوصية القصة الذي يتوجه إليه موضوع حكايتنا: نحن هنا نتحدث عن قصة (فنية) تطرح أسئلة عن ماهية هذا الفن والكيفية التي يتشكل بها وطريقة إستجابة البشر له بقدر ما نتحدث عن قصة (غامضة) في إطارها الحياتي الواقعي الذي يشعر بها ويتفاعل معها أي فرد عادي في المجتمع، الفن -الفوتوغرافي هُنا- لغة عالمية لا يتطلب سوى المعاني المرئية ليتجاوب معه الجمهور.
أيضاً الفيلم لا يتغاضى عن الناحية الأخلاقية لموضوع إستثنائي كهذا، بالرغم من عدم كونها من الأولويات التي يريد أن يؤكدها ويبرزها العمل، وعلى الرغم -أيضًا- أن هذا البُعد الأخلاقي قد يعتبره البعض هو لُبّ الحكاية بمنظورٍ ما، فيفيان عاشت كامل حياتها تفعل شيئًا لم يلاحظه البشر من حولها، لم يتصور أحدًا مِن مَن تقرّبوا منها أنها يمكن أن تكون شخصية (خيالية) -إن صح التعبير- هكذا.. أن تتشارك مع شخص أعوامًا من حياته ولا تعرف عنه إلا الشئ القليل، ثم تتفاجئ يومًا ما أن يطرق أحدًا بابك ويُخبرك أنّ من كان يعيش معك -أو بالأحرى أنت من كنت تعيش مع- شخصٌ لديه مَلكة وموهبة فذة من نوعٍ خاص تُدهش الأفئدة وتنبهر لها العيون من حول العالم لهو أمرٌ جنوني بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، ولا أعتقد أن هذا الشخص يستطيع مقاومة النزعة الفُكاهية المُضحكة للأمر الممزوجة بالدهشة الشديدة على وجهه، ربما الحوار الإفتتاحي للمقالة أعلاه هو أفضل ما يمكن التعبير عنه لوصف الشعور الذاتي من قِبَل هؤلاء المقربين من فيفيان تجاه البُعد الأخلاقي لأمر مثل صناعة فيلم تسجيلي عن حياتها.
لكن بعيدًا عن كل هذا، فالفيلم يملك مساحة كبيرة نسبيًا من التعريف بالعالم الفوتوغرافي، وذكر العديد من المصطلحات التصويرية المستخدمة فيه، وأنواع الكاميرات ذات الـ8 والـ16 مم سواءً بالشكل التعريفي النظري، أو العملي ضمن سياق الفيلم، أصلًا يوجد أكثر من شخصٌ خبيرٌ في التقنيات التصويرية كانوا ممن تم التحاوَر معهم وقد رصدوا مواضع قوة صور فيفيان، وشرحوا وبيّنوا أهمية الكادرات في دراسات تحليلية موجزة.. كل هذا غير العدد الهائل من الصور التي عرضت بالفيلم والتي يمكن تشكيل ألبوماً كاملاً من خلالها: تخيل معي أننا ما زلنا في الدقيقة السادسة والعشرون من عُمر الفيلم، وقد عُرضت مائة صورة كاملة ضمن سياق القصة!.. لذا فأعتقد أن أي شخص هاويٍ أو محترف للبيئة التصويرية سيهمّهُ كثيرًا مشاهدة فيلم مثل هذا، ولو إقتصر الأمر حتى على البُعد التعليمي للموضوع.
ورغم أن مُتابعي الأفلام التسجيلية يعلمون أنها عادةً ما تلتزم بالنبرة التفاؤلية في مشاهدها الختامية ولا تنال هذا القدر من الإهتمام، وهذا نابع في الأساس من طبيعة النمط التسجيلي الذي يوجب حضور الموضوعية الشديدة بها، وإنعدام التوجيه القصصي من أي نوع، عكس أهمية النهايات بالأفلام الروائية مثلًا التي تقول الكثير عن القصة.. إلا أني لا أستطيع إدعاء أني لم أكن مُنتظرًا لها: ليس لمعرفة نهاية قصة فيفيان -والتي تبدو قليلاً كأنها أبدية لم تُخلق لكي تنتهي-، لكن لمعرفة كيف ستكون الصورة التي تنتهي عليها قصة مذهلة كتلك، وإلى أي مدى سيلامس العمل عصب ثنائية (العاطفية المشهديّة/غموض الحكاية) التي تكتنف العمل في النصف الثاني منه وصولاً لذروتها في المشاهد النهائية.
الفيلم عبارة عن ساعةً وثلاثٌ وعشرون دقيقة من المتعة القصصية التي لا تقاوم، صحيح أنه لا يملك تجديدًا أو تميُّزًا على مستوى سرد القصة وهذا أمرٌ مفهوم بسبب طبيعة الحكاية ذاتها قبل أي يكون بسبب كونه العمل الإخراجي الأول لشابان مغموران، إلا أني لا أنكر أنه واحدةً من أقوى القصص ذات بُعديّ الإلهام /الغموض التي أعطتها لي شاشة السينما يومًا، رغم كونها غريبة قليلاً على فيلم تسجيلي.. هو في ذلك كالنقيض الحرفي لشكل الفيلم الروائي الغامض بأذهاننا مثل أفلام المخرج دايفيد فينشر مثلاً: ليس هناك أية ألاعيب سردية للقصة ولا حبكات ولا أشياء من هذا المنوال، واقعيته هي مصدر غرابته ومصدر تفرُّده الشديد، به الكثير من الروح الكلاسيكية للقصص الغامضة من قبيل (من قتل المرأة ذات الرداء الأحمر الفاخر؟) التي سمعناها مرارًا وتكرارًا.. عملٌ ممتاز وواحدٌ من الأفلام التسجيلية التي سأتذكرها كثيرًا والتي حفرت لها مكانًا خاصًا في قلبي، عن قصة إمرأة.. عاشت طوال حياتها ترغب بأن تهرب من واقعها وأن تكون شخص آخر غير التي هي عليه، فقررت أن تنتحل شخصيةً خياليةً وتسير معها لنهاية المشوار، حتى تتمكن من فعل ما لم يكن بمقدورها أن تفعله أبدًا في حياتها العادية.