في شمال فرنسا وتحديدًا في منطقة ميناء دُنكيرك نرى جندي إنجليزي يريد العبور إلى الجهة التي ينتمي لها محاولًا تفادي الرصاص، فنجده يصرخ قائلًا "أنا إنجليزي" ثم بعدها يسمح له الجنود بالعبور للميناء. هكذا اختار كريستوفر نولان أن يبدأ فيلمه "دُنكريك" الذي يحكي عن حادثة إجلاء دُنكريك الشهيرة التي يطلق عليها التاريخ أحيانًا (معجزة دُنكيرك) التي حدثت أثناء الحرب العالمية الثانية بين قوات الحلفاء وقوات المحور.
هل يجب أن نحارب لنستسلم؟
يُدخلنا "نولان" بكاميرته إلى ميناء دُنكريك لنجد الجنود منتظرين السفينة التي ستعيدهم للمنزل، ندخل الفيلم والأمر شبه منتهِ، الجنود يحملون زملائهم المصابين، والبعض الآخر يدفن الموتى والباقي مُصطفًا ينتظر دوره في الإنقاذ، من الوهلة الأولى ندرك أن هذا ليس فيلمًا عن الحرب بل على الأرجح العكس، عن الاستسلام، طوال الفيلم لم يضرب أي جندي إنجليزي أو فرنسي طلقة واحدة إلا للدفاع عن النفس، هم ليسوا هناك للحرب بل هم مُحاصرين عاجزين عن الإستسلام. "حسنًا فعلتوا" يقولها الرجل المسئول عن الطعام قرب النهاية فيرد عليه الجندي: "كل ما فعلناه هو أننا نجينا"، فيرد عليه الرجل "هذا يكفي"، الاستسلام كان الغاية العظمى لا الحرب، لذلك لم يكن مطلوب من الفيلم أن يُشعرك ببشاعة الحرب، الأمور في دُنكيرك لم تكن بشعة بالمعنى الحرفي، لا مذابح ولا قتل حدث في الأيام القليلة للإجلاء، بل هو إحساس بالحصار أكثر من كونه إحساس بالبشاعة، وليُشعرك بالحصار وظف نولان كل أدواته في خدمة ذلك الغرض، بداية بالمشاهد الواسعة الشاحبة للجنود مصطفين وورائهم العدم، مرورًا بمشاهد حبسهم داخل السفينة، نهاية بمشاهد الطيارين وهم مُجبرين على الطيران في ارتفاع معين استعدادًا للاستسلام.
دُنكيرك هي البطل
يُمكننا اعتبار أن دُنكيرك المكان هو البطل الحقيقي للفيلم، ليفاجئنا نولان بطرح لا مركزي للإنسان في نوع افلام يحتاج عادة لإنسان يعطي للأمر سياق، ففي فيلم هاكسو ريدج للمخرج بل جيبسون السنة الماضية على سبيل المثال كان يحكي قصة جندي في الحرب يرفض حمل السلاح، وفي النصف الأول من هاكسو ريدج يعطيك المخرج لمحة جيدة جدًا لحياة البطل واحلامه وطموحاته، لأنه من دون تلك اللمحة لن تستطع أن تتعاطف معه بقية الفيلم، ولكن دُنكيرك لا يريد منك التعاطف مع أحد، هو يريد منك أن تصبح واحدًا منهم لا مُشاهد، لتشاهد الفيلم كما هم يخوضون الحرب، بقسوة وبراجماتية، لا أن تشاهد الفيلم بمشاعرك كالعادة. نجد انه لا يوجد بطل اوحد للفيلم تقريبًا بل الفيلم عبارة عن آداءات مشتركة لكافة أبطاله، لم تنفرد أي شخصية بحوار مطول عن حياتها وتاريخها، ولا يتوقف العالم ليفيض جندي ما بمشاعره واحاسيسه ناحية الحرب، ولا يكترث النص بإعطائك اي نبذة عنهم ولا عن تاريخهم. الفيلم ليس عنهم بل هو عن دُنكيرك فقط، لأن في الحرب الجندي مجرد رقم، فنجد انه لا يحمل ايّ منهم اسماء نتذكرها، ولا يتم نطق اي اسم لأي ممثل قام بدور جندي طوال الفيلم تقريبًا إلا في أضيق الحدود. عندما يُنادي الطيار الذي تم انقاذه (كولينز الذي يقوم بدوره جاك لودن) على زميله الذي ما زال في الطائرة (فارير الذي يقوم بدوره توم هاردي) لم ينطق إسمه بل نطق إسم الطائرة، ونجد الرجل في المركب (مستر داوسون) مُهتم بأسماء الطائرات اكثر من أسماء الجنود الذي ينقذهم، وفي المركب التي كانوا محبوسين داخلها لا يلبث الجندي الإنجليزي (تومي الذي قام بدوره فيون وايتهيد) ان يضحي بصديقه الفرنسي فقط لأنه شعر ان حياته في خطر، والجندي الذي تم إنقاذه ايضًا في البداية (الجندي المرتعش الذي قام بدوره سيليان مورفي) لم يتردد في ترك زملائه الجنود في البحر فقط لأنه سيغرق إذا انقذهم، هكذا تُفكر الحرب في الجنود، وهكذا يفكرون هم أثناء الحرب، حتى المعضلات الأخلاقية التي تصنع عادة حبكة درامية لا وجود لها في الفيلم، فحين يقول قائد الأسطول لقائد الجيش "لن نبقى للفرنسيين، نريد فقط إنقاذ جيشنا" لم يعترض الآخر بشدة، ربما استنكر قليلُا ولكن الأمر لم يستوقفه لأن في الحرب لا يختبر الجنود عادة انهيارات عصبية، ولا يفكرون عادة في المستقبل البعيد بل تفكيرهم كله محصور في هذه اللحظة، فنجد الجندي يفكر من أين سيخرج إذا غرقت السفينة، والطيار يفكر في كم لتر وقود باقِ حتى تسقط الطائرة، أما الجندي في المركب (الجندي المرتعش) فكان كل همه أن يعود للوطن، ولا يتردد في ان يسلب أحدهم حياته لهذا. حتى في تناول الفيلم لفكرة الوطن لم يتم تحديد ماذا يمثل الوطن لهم بالضبط، لم يكن الحديث محدد بناس وأشياء وعلاقات، بل هو عن الوطن عمومًا، لم يقل الجندي "اريد العودة لزوجتي" أو "أريد العودة إلى ابني" بل قال "أريد العودة إلى المنزل" وفي تعامل الفيلم مع الجنود نفسهم، لن يمكنك تكوين رابط عاطفي بينك وبين أي شخصية، لأن الفيلم لا يحكي قصص الجنود منفردة بل يحكي قصة الحرب، لا نعلم ما اذا كان شخص منهم أب لأحدهم أو زوج أحدهم أو صديق أحدهم، ولا يكترث الفيلم لذلك، فقط هناك مجموعة جنود، يريدون العودة للوطن، وتفاصيل الأمر هنا لا تهم، الفيلم يكاد يصرخ قائلًا، بطولات الحرب هي محض هراء افلام، هذه هي الحرب وهكذا تُعامل جنودها. ايضًا غاب الحوار في الفيلم الا في اضيق الحدود، لم يتحدث الجنود لبعضهما البعض سوى لتوصيل معلومات معينة، بقية الفيلم يسود الصمت، كأنه يريد القول ان الحرب في المعظم عبارة عن صمت، في الاستسلام تكون محمل بثقل يجعلك غير قادر على الحديث، نجد المشاهد الصامتة تتكرر كثيرًا. تقف الكاميرا على مشهد معين وتصمت، تركز على وجه معين وتصمت في تعبير واقعي صارخ من نولان عن الحرب، أنها لا تكون ملحمية طوال الوقت، بل ان في بعض الأحيان يسود الصمت، واحيانًا تخذلك توقعاتك وتظن أنك ستعود لبيتك كبطل، إلا أنك تعود فقط كناجٍ.
الحس التجريبي في الفيلم كان واضحًا، هذا ليس فيلمًا نولانيًا، بل إنه على الأرجح أولى تجارب نولان من هذا النوع، وأول فيلم سينمائي يناقش الحرب دون الإنسان في لفتة يثور بها نولان على تقاليد السرد والإيقاع، وبالرغم من الثورة والمخاطرة التي يخوضها نولان خصوصًا فيما يتعلق بمحبيه الذين يعشقون الحبكات الدرامية في الأفلام والذين خرجوا بالفعل محبطين من الفيلم إلا انه ينجح في الخروج بفيلم ثوري عن الحرب من ناحية السرد ونجح في توصيل مشاعر الجنود من الحصار والخوف والقسوة بأهدى طريقة ممكنة وشاعرية، ونجح في نقل مشاعرهم الإنسانية بأقل كلمات وحوار ممكن، إذ يمكننا في النهاية القول ان دانكيرك هو أنضج السيناريوهات التي قدمها نولان في السينما، واكثرهما فرادة واصالة، لأنك حتمًا يجب ان تكون موهوبًا بقدر عظيم لتصنع فيلمًا بهذا التعري عن الحرب وملحقاتها.