في عُرف الحرب يُعَد المُنسَحِب مهزومًا، و لكن يبدو أن لنولان رأي آخر. هذا الرأي هو السبب الرئيسي الذي جعله يختار موقعة "دانكيرك" موضوعًا لفيلمه الجديد دونًا عن أي حدث آخر.
يحكي فيلم "دونكيرك" عن عملية انقاذ ما يقرُب من 400 ألف جُندي من الموت الحتوم على يد العدو النازي، و يتناول الفيلم الحدث بطريقة لم يسبق لي أن رأيتها في أفلام حربية أُخرى، لأن نولان هنا يعزم على تغيير مفهوم النصر في أذهان المشاهدين و لا يتناول القصص الجانبية أو يحكي حكاوي الجنود المعتادة عن حياتهم الشخصية وذويهم الذين ينتظرون عودتهم من هذا الجحيم المستعر، بل إنه يختار كصانع أفلام ذا قُدرة و امكانيات كبيرة أن يحكي لنا القصة مُختزَلة من أي كليشيهات حيث يبدأ الفيلم و ينتهي في كَبِد الحدَث و الهدف من وراء ذلك كان اضفاء العُمق على واقعية التجربة السينمائية، فهل نجح نولان في ذلك؟
مبدئيًا، إذا أردنا أن نجِد مرادفات لكلمة سينما فربما سيطرأ على الذهن أول الأمر كلمات مثل: صورة، زمن، صوت و إختزال.
و يمكننا القول أن نولان استطاع بتمكُن استخدام هذه العناصر لكي يحكي قصته و يعُمق أثرها في نفس المُشاهِد، فزهَد أغلب الوقت في الحوار واعتمد في حكيه على الصورة السينمائية، و تلاعب بالزمن، فقص علينا ثلاث قصص منفصلة-متصلة ذات وحدات زمنية مختلفة عن بعضها البعض، و دعَم التجربة البصرية و الزمنية بشريط صوت يجعل من طلقات الرصاص حقيقة ملموسة بأكثر من حاسة بالإضافة الى موسيقى هانز زيمر الملحمية التي تضعَك في حالة من الترقُب و قد ارتكزتْ تيمتها الأساسية على صوت دقات عقارب الساعة و كأن هانز و نولان يقولان: "الموت و الوقت شريكان لا ينفصلان أبداً، و ما دام الموت متربص فكُل ثانية.. كُل دقة من دقات عقارب الساعة قد تكون الأخيرة".
و بطبيعة الحال، فإن السينما تحكي قصصًا، والقصص هي ملك لشخصيات، فيمكننا أيضًا إضافة كلمة "شخصية" لمجموع مرادفات السينما السابق ذكرهم. في "دانكيرك" الشخصيات حقيقية إلى أبعد الحدود، ففي الحرب لا يهتم أحد بهُويتك أو مسقط رأسك و لا درجة تعليمك، فالقيادات و الدول لا تهتم سوى بالأرقام، جنود مُجنَدين يَقتُلون و يُقتَلون، يُحققون نصراً أو ينهزمون و ربما في نهاية الحرب ننعي بعض الموتى الذين استطعنا التعرُف على جُثثهم و نكرم البعض الآخر في حين يحصُد الساسة و القيادات ما حققه المُجنَد من نصر، و هذه كانت ركيزة بناء الشخصيات عند نولان في فيلم "دانكيرك" فهو لا يسمح لك بتكوين أي رباط عاطفي مع أيٍ من شخصيات الفيلم على حدة؛ إلا في حدود مُعينة و هذا ليس لعجزٍ منه بل لسبب درامي واضح، في حين أنه يسمح لك بشكل غير مشروط تكوين أواصِر الوِد و إظهار مشاعر التعاطُف مع مجموع الجنود ككُل، مع عدد يُقارب ال400 ألف شخص، فتحزن عندما تتربص بهم طائرات العدو و تسعَد لسعادتهم عندما يأتي الغوث.
إذاً مما سبق و ذكرناه يُمكننا أن نخلَص إلى إجابة قائلة بأن نولان نجَح في إعطاء تجربته السينمائية عُمقًا و واقعية قلما رأيناهما في تاريخ هذه النوعية من الأفلام، وقد حقق ذلك بشكل شديد الجرأة لأنه يُعتبَر أسلوب مُجَدِد جدًا سواء بالنسبة لنوعية الفيلم أو بالنسبة لمدرسة نولان الفيلمية المعتادة.
وعلى سبيل ذكر مدرسة نولان، فكما كان "دانكيرك" تجديدًا فهو أيضًا يعتبرَ فيلم مُحافظ على الكثير من خصائص أسلوب نولان، وأبرزها هو خاصية فلسفية عن رأي نولان في "غريزة البقاء"؛ فهو اعتبرها في الكثير من أفلامه الغريزة والدافع الأقوى للسلوك البشري، قدمها بأشكال تباينت بين فيلم و آخر ففي Interstellar، كانتْ مسألة البقاء نوعية، حيث يتهدد البشرية خطر الإنقراض، و في Inception كان البقاء على قيد الحياة بالنسبة لكوب بطل الحكاية مرهونًا بحبه لأبناءه و عدم قدرته على الحياة دونهم وهكذا دواليك.
بطريقة أو بأخرى، نجِد هاجس غريزة البقاء مُسَيطِر على عالم أفلام نولان بشكل لا يُمكِن إغفاله، خاصةً هذه المرة، ففي "دانكيرك" استطاع نولان أن يُخبرني كمُشاهد من خلال الحكاية أن مُجرَد النجاة و البقاء على قيد الحياة هو في حد ذاته إنتصار على العدو و ليس كُل الإنسحاب إنهزامًا، وإنما كُل جُندي تم انقاذه و كُل روح كُتِبتْ لها النجاة هي بمثابة نصر مُبين.